أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، سنتحدَّث في هذه الحلقة – إن شاء الله تبارك وتعالى – عن الدولة ومفهومها وبنيتها في التصور الإسلامي، أي في التصور السياسي الإسلامي، بعد أن تكلَّمنا عن تجربة الدولة كما رأيتم بحديث أنا أظن أنه كان حديثاً عاجلاً أو مُعجَلاً أو مُقتضَباً في التجربة الشيوعية أو الاشتراكية، لأنها بالأحرى لم تصل إلى مرحلة الشيوعية، ربما كان يكون من المُناسَب لو أننا أكملنا الحديث طبعاً بخصوص تلكم التجربة، ولكن سيكون الحديث أيضاً مُسهَباً وطويلاً، ولذلك قد يكون – إن شاء الله تبارك وتعالى – من المُفيد والمُجدي أن نعقد حلقات لمُناقَشة هذا الفكر الاشتراكي العلمي كما يُدعى في جوانبه الثلاثة، في تفسيره للكون والطبيعة، في تفسيره للمُجتمَع والتاريخ، وفي الجانب الاقتصادي منه، على أن نُكمِل أيضاً ما انقطع من حبل الحديث عن الجانب السياسي في هذا الفكر الاشتراكي العلمي، بما يتعلَّق بالثورة وبما يتعلَّق بالدولة.
تلخيصاً لما ذكرناه في المُحاضَرة السابقة في بضع نقاط سريعة نقول أولاً تجربة هذا الفكر الاشتراكي العلمي أو الفكر الماركسي اختصاراً لم تكن تجربة ناجحة ولا واعدة ولا يُمكِن أن تُبنى عليها آمال، بعض الناس يقول هناك فارق بين الفكر النظري التجريدي وبين الواقع التطبيقي العملي، كانت هناك ثمة أو وُجِدَت ثمة أخطاء ومُركَّبات هي التي أدت إلى ما آل إليه الوضع، وفي الحقيقة هذه الحُجة ليست صحيحة، لماذا؟ أنا استهدفت من المُحاضَرة السابقة – وإن لم يُسعِفني الوقت كما رأيتم – أن أُثبِت أن هذه الأخطاء تتبع وتكمن وتثوي في جذر النظرية الماركسية، ليس في التطبيق وإنما في جذر النظرية الماركسية، ولذلك نقدة الفكر الماركسي سواء من الاشتراكيين أو حتى من الرأسماليين آمنوا بعد حين أن رجلاً كستالين Stalin – مثلاً – كان مُخطئاً، هذا الطاغية الدموي الذي تسبَّب على الأقل في إهلاك أربعة وعشرين مليوناً، وعلى المشهور أربعة وأربعين مليوناً، لكن على الأقل – هذا أحد أدنى ولا يُوجَد ما هو أقل منه – أربعة وعشرون مليوناً، وفي المشهور وأربعة وأربعون مليوناً، تسبَّب في قتل أربعة وأربعين مليوناً من البشر، ومثله طبعاً ماو Mao – ماو تسي تونغ Mao Zedong – في الصين، تسبَّب في قتل أربعين مليوناً، بول بوت Pol Pot في كمبوديا – وكان مدعوماً من الصين بالذات – تسبَّب في إهلاك ثُلث شعبه، شعب كمبوديا تسعة ملايين، هو قتل ثلاثة ملايين وصنع أهرامات، هذه هي التجربة الشيوعية! هذه هي التجربة الشيوعية كما تحقَّقت للأسف في بعض الدول وفي بعض الأماكن.
فهذه التجربة سبب وسر فشلها ليس في الهوة وليس في المساحة – مساحة الخُلف – بين النظرية والتطبيق، بالعكس! بل لأن التطبيق أصلاً جاء مُتوائماً مع النظرية، ماركس Marx له عبارة – موجودة في أعماله التي اختارها إنجلز Engels، مُختارات من ماركس Marx – يقول فيها بالحرف الواحد نحن جلّادون، طبعاً لابد أن يكون جلّاداً الرجل، يُؤمِن بأن التاريخ كل التاريخ – التاريخ المحلي والتاريخ العلمي – يقوم على فكرة الصراع – الصراع Conflict – والصراع الدموي، وقد أسلفت لكم في الحلقة السابقة أن لينين Lenin – فلاديمير ألييتش لينين Vladimir Ilyich Lenin – قد انتقد على الاشتراكيين الديمقراطيين الكاوتسكيين – أتباع كارل كاوتسكي Karl Kautsky – في ألمانيا مِمَن يُسميهم بالأنذال الانتهازيين الخونة والمُرتَدين – خونة الفكر الماركسي والمُرتَدين عنه، هكذا! يستخدم هذا الاصطلاح الدين: الارتداد، يصفهم بالمُرتَدين عن الفكر الماركسي – لأنهم آمنوا بالحل السلمي، بالأسلوب السلمي طريقاً للوصول إلى السُلطة.
بالمُناسَبة الآن طبعاً مُعظَم الأحزاب الشيوعية في العالم صارت إلى هذه النظرية، تُؤمِن بماذا؟ بالحل السلمي، بالبرلمانات والديمقراطية والانتخابات وتشكيل الأحزاب! بنفس ما يحصل في السياق الرأسمالي الغربي، الآن كلها انتهت إلى هذا، فمَن الخائن: الكاوتسكيون أو اللينينيون؟ لا ندري، لكن – المُهِم – لينين Lenin كان أميناً إلى حد ما على أفكار ماركس Marx، أفكار ماركس Marx الثورية الصراعية التي تُؤمِن بالعنف، والتي ترى وجوب أن يُصفي المُجتمَع بعضه بعضاً بالعنف الدموي المُسلَح، بحيث تقمع الأكثرية الأقلية، ولن نُعيد ما ذكرناه.
على كل حال يرى بعض النقدة المُنصِفين إلى حدٍ ما أن ستالين Stalin كان بذرة – بذرة لينينية – وجدت نموها في ظروف أُخرى مُناسِبة، بمعنى آخر كان امتداداً للينين Lenin، ستالين Stalin كان امتداداً للينين Lenin، لينين Lenin طبعاً لم يكن دائماً رجلاً مُسالِماً، هذه أسطورة بالمُناسَبة، هناك أستاذ درَّس هنا في فيينا ودرَّس في ميونخ وفي أكثر من بلد غربي رأسمالي وهو أصله طبعاً روسي، صاحب كتاب مشهور جداً جداً عن هذه التجربة السوفيتية الدموية، وهو كان اشتراكياً كبيراً، اسمه باللاتينية القديمة يعني المراتبية في الدولة السوفيتية السابقة، وهذا الاصطلاح أو هذه اللفظة اللاتينية تعني بالضبط إحصاء المراتب والوظائف، لكن هو يتحدَّث عن انهيار هذا المشروع بعد تجارب دموية مريرة، ولذلك – حتى لا نُطوِّل في هذا الاقتضاب والتلخيص أو التخليص لما سبق من عرض فكري لبعض هذه المسائل والشؤون – لا يُمكِن أن نُناظِر أو نُماثِل بين التجربة الإسلامية كما يفعل بعضهم وبين التجربة الشيوعية، هناك على الأقل ثلاثة اعتبارات ترفض أن ننزل إلى هذا المُستوى، ونأتي إلى الاعتبار الأول الذي ذكرته وفرغت من ذكره على التو، عن ما حصل من تجارب دموية ومن تجارب استئصالية إقصائية للإنسان وللمُجتمَع، في الحقيقية تلخَّص كل شيئ في النهاية في ماذا؟ في اللجنة المركزية للحزب، وتلخَّصت هي بدورها في شخص واحد، هذا هو المُجتمَع، هذه هي الدولة، وهذه هي الثورة! والمُجتمَع كله خُفِّض وجوده إلى درجة صفرية، كأنه ليس له وجود على الإطلاق، أُمِّم! الأمة أُمِّمت، الشعب والجمهور أُمِّم بالكامل، لصالح شخصية واحدة، وظل الخطأ – كما قلت لكم في الدرس السابق – يتكرَّر باستمرار، فما أخذه لينين Lenin على أصحاب الأُممية الثانية أُخِذ عليه هو أيضاً، وما أُخِذ على ستالين Stalin من قِبل – مثلاً – نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev أُخِذ على خروتشوف Khrushchev نفسه وقد سلك مسالك مُشابِهة لكن أقل حدة، حتى وصلنا في النهاية إلى غورباتشوف Gorbachev صاحب الغلاسنوست Glasnost أو الاستعلانية وإعادة البناء، وأخذ على كل مَن سبق – ليونيد بريجنيف Leonid Brezhnev وغيره – أيضاً ما أُخِذ على ستالين Stalin، نفس الشيئ! الخطأ نفسه يتكرَّر، لأن الفكر يسمح بمثل هذه المُمارَسة، النظرية نفسها تسمح بمثل هذه المُمارَسة!
على كل حال في التجربة الإسلامية الوضع مُختلِف تماماً، كيف؟ قلنا هذا، لأن بعض الناس يقول حتى في الإسلام حصل هذا يا أخي، وُجِدَت الديكتاتورية والاستبدادية وأنتم تتحدَّثون عن ذلك، لا! انتبه فهناك فرق كبير جداً جداً، الأمة الإسلامية إلى اليوم – وذكرت هذا في الدرس السابق – إذا أرادت أن تُدمدِم على الطُغاة وعلى المُجرِمين وعلى المُستبِدين فإنها تلوذ حين تلوذ بكتابها وبسُنة نبيها، لكي تصم هؤلاء بأنهم طُغاة مُجرِمون فراعين قوارين مُترَفون في الأرض وبأنهم كذا وكذا، أليس كذلك؟ بالقرآن وبالسُنة! لا يستطيع أحد أبداً أن يقول إن القرآن والسُنة يُعزِّزان من جانب هؤلاء، هذا كان جُزءاً بسيطاً من موضوع خُطبة أمس مثلاً، مُستحيل! كتاب ينتصر لرجل ضعيف عاجز فقير أعمى بإزاء الملأ والعِلية من سادة قريش، وتنزل سورة كاملة! عَبَسَ وَتَوَلَّى ۩ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ۩، إلى آخرها، عتب شديد جداً على رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، ولو كان النبي كاتماً شيئ لكتم أمثال هذه السورة، لكن هو نبي مُبلِّغ، لا يستطيع أن يكتم!
النبي يخرج مرة ويرى أن أبا بكر قد لاسن شيئاً من المُلاسَنة صهيباً وعمّاراً وبلالاً الحبشي وأمثال هؤلاء من ضعفاء المُسلِمين، من أجل ماذا؟ من أجل أنهم عرَّضوا بكلمة على مسمع من أبي سُفيان، إن أسيافنا لم تأخذ مأخذها من طواغيت قريش! فأبو بكر تكلَّم وقال هذا لا يجوز، يبقى سيف قريش وما إلى ذلك، فالنبي خرج وقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت الله، نحن مع هؤلاء، نحن من هؤلاء! هؤلاء هم الأوفياء لمبادئ الدين، أي الضعفاء المُستضَعفون والمساكين، ليس العِلية، ليس المُترَفين، وليس الواجدين أبداً، إنما هؤلاء! الذين أمر الله – تبارك وتعالى – نبيه أن يصبر نفسه معهم، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ۩، مَن هم؟ لم يكن لأحدهم إلا ثوب واحد بل ثلاثة أرباع ثوب أو نصف ثوب، يخرج النبي ويقول مرحباً بمَن أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم، ويكون معهم وإليهم! وكما قلنا أمس في الخُطبة ظل – عليه الصلاة وأفضل السلام – يعيش عيشهم ويتمنى هذا العيش! في الصحيحين من رواية أبي هُريرة اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، وفي رواية كفافاً، النبي يُريد هذا! والقوت ما هو؟ القوت ما قام بالأود، أي على قدر الضرورة، أن تأكل وتشرب ما يحفظ عليك الرمق، النبي يتمنى هذه الحياة، لا يُريد أكثر من ذلك، لا يُريد أن يجمع الدنيا من أطرافها، يُريد القوت فقط، ما يُقيم أوده وأود أهله، فالوضع مُختلِف تماماً!
ولذلك حالما تفشل تجربة تطبيقية واقعية لأمثال هذا الفكر الإنساني الوضعي القاصر ما الذي يحدث وقد حدث؟ يرتد البشر عن هذا الفكر، يكفرون به! ولذلك طال النقد من الماركسيين لينين Lenin مُباشَرةً بعد ذلك، هو نفسه أصابه النقد الشديد، ثم طال بعد ذلك مَن؟ ماركس Marx وإنجلز Engels، قالوا هم أسباب البلاء، هم هؤلاء! لكن عندنا لم يحدث هذا أبداً، كلما كان يشتد العسف والظلم والطُغيان والاستبداد وتنفذ بعض الطبقات على حساب الطبقات الأُخرى ما الذي يحصل؟ يلوذ الناس بالقرآن مُباشَرةً، يلوذون بالسُنة، يلوذون بالسيرة، بعمر، بأبي بكر، بعلي، وبُأمثال هذه النماذج، هؤلاء! وطبعاً كانت هناك تجربة ناجحة جداً جداً، على الأقل مثالية! وربما نقلت لكم مرة نقلاً عن أوسفالد شبينغلر Oswald Spengler صاحب أفول الغرب أو اضمحلال الغرب The Decline of the West، يقول فيه بالألمانية إذا كان ثمة تجربة ليوتوبيا Utopia – أي الطوبيا، يُسميها العرب الطوبيا، وهي ماذا؟ المدينة الفاضلة، يوتوبيا Utopia – فهي في فترة خلافة الأربعة، شبينغلر Spengler يقول هذا! هذه فعلاً كانت فترة مثالية، طبعاً باستثناء الشطر الأخير من خلافة عثمان وما إلى ذلك، كانت هناك مشاكل! لكن هذه كانت فترة مثالية، وبالذات فترة أبي بكر وعمر، فترة استقرار سياسي – نظرياً وتطبيقياً – ورخاء وعدل وسلام، وسيادة القانون كانت على الجميع من الخليفة إلى أصغر شخص، غريبة! قال لم يجد في التاريخ مثلها، فهذه فترة مرجعية للمُسلِمين، لأمة الإسلام! رغم ما حدث بعد ذلك حتى في تاريخ هذه الأمة عبر ألف وأربعمائة سنة، تجاوزات كبيرة حدثت بلا شك، ونعيش امتداداتها، لكن لا يُمكِن أن تُناظَر أو تُماثَل بالتجربة الشيوعية، قتل الملايين، عشرات الملايين! ازدراء الناس، الحجر على التفكير، على العلماء، على الفنيين، على الموسيقيين، وعلى كل شيئ! في تجربة الاتحاد السوفيتي الموسيقى اضمحلت، كل شيئ! حتى الموسيقيين أُودِعوا في الزنازين وفي غيرها.
مكسيم غوركي Maxim Gorky – الأديب الكبير، لعل بعضكم قرأ له، صاحب الأم، أديب كبير – دُس له السُم بأمر ستالين Stalin، وهو كان من رجال هذا الفكر، أي الرجل كان من رجال الفكر الاشتراكي وكان وفياً، لكن دُس له السُم، والسبب الوحيد كما يقول المُؤرِّخون الروس ما هو؟ هل هذا عارض فكر ستالين Stalin؟ لم يُعارِض، كان عنده بعض الأشياء المُغلَّفة في المسرحيات التي كانت تُمثَّل على المسرح لمكسيم غوركي Maxim Gorky، فقط السبب الرئيس كما يرى هؤلاء أنه نازع ستالين Stalin الشُهرة، أصبح شخصاً مشهوراً جداً، محبوب الجماهير مكسيم غوركي Maxim Gorky! إذن لابد أن يُتخلَّص منه، ويُدَس له السُم بأمر ستالين Stalin، حتى هناك شكوك – كما قلت لكم – أن لينين Lenin نفسه ربما يكون قد دُس له السُم بأمر ستالين Stalin، هناك شكوك لكنها غير كاملة، لأن لينين Lenin أصلاً مرض مرضاً شديداً وأُقعِد في آخر سنتين من حياته.
على كل حال هذا لم يحدث مثله ولا قريب منه في تاريخنا – الحجر على الأفكار، على الفنانيين، على الموسيقيين، على العلماء، على الكتّاب، وعلى الفلاسفة – أبداً، ظل عندنا قدر كبير جداً جداً من الحرية، في عهود الاضطهاد طبعاً التاريخ لا يسمح حتى ولا يُمكِن أن يجود علينا بمثال واحد عن شخصية كُبرى قامت – مثلاً – وتكلَّمت في وجه ستالين Stalin، طبعاً قد يكون الناس معذورين، معروف أن ثمن الكلمة الرأس مُباشَرةً، أٌقل شيئ! لكن في تاريخ المُسلِمين – وخاصة في تاريخ بني أُمية وتاريخ بني العباس وهم ظلمة مُستبِدون، ولا أتردد في ذلك! مئات العلماء كانوا يتكلَّمون بالكلمة الجهيرة جداً جداً، وتتناقلها الرُكبان كما يُقال، كانوا يتكلَّمون بكلام شديد أمام الخليفة.
يأتي رجل مثل الفُضيل بن عياض – وهذا الرجل كان بلُغة العصر درويشاً وصوفياً، ليس عالماً كبيراً لكنه رجل صوفي مُتعبِّد – إلى الرشيد، والرشيد ليس – مثلاً – كأي حاكم الآن في دُويلة عربية خليجية أو غيرها، الرشيد هذا! هذا كان رجلاً إمبراطوراً، أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ فإنَّ خراجكِ عائدٌ إليّ، ليس رجلاً عادياً، ليس خليفة عادياً، هذا هارون الرشيد! ويأتي إليه ويقول له يا أبا عليّ عظني، فيُصافِحه وما إلى ذلك ثم يقول له ما ألين مس هذه الكف لو نجت غداً من عذاب الله! انظر إلى هذا الكلام، كلام صعب جداً، قال له انتبه إلى نفسك، يا أمير المُؤمِنين إياك أن تُصبِح أو تُمسي وأنت غاش لرعيتك، فقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – مَن أصبح وأمسى وفي قلبه غش لأحد من رعيته لم يرح رائحة الجنة، كلام شديد هذا! الآن لا تُوجَد أي ذقن ولا أي أحد يستطيع أن يقول هذا لحاكم محلي الآن لدينا في دُويلة عربية صغيرة، يخاف أن يقول كلاماً مثل هذا، كأن يقول له لا تغش الرعية، أليس كذلك؟
أبو يوسف اتُهِم بأنه من فقهاء السُلطان، أبو يوسف – يعقوب بن إبراهيم الكُليني – تَلميذ أبي حنيفة وصاحبه الأجل، حين استكتبه هارون الرشيد شيئاً في اقتصاد الدولة وتنظيم مواردها ومصادرها انتهزها واهتبلها فُرصة، اقرأوا الخراج، اقرأوا مُقدِّمة الخراج! نصائح مُتوالية مُتواتِرة من أشد ومن أبين وأوضح ما يكون! من غير جمجمة ومن غير نفاق، لا يُلفِّع نصيحته بكلمات وما إلى ذلك أبداً، يقولها بشكل واضح جداً جداً! يأمره بالعدل وبالقسط وبالإنصاف وبرفع المظالم وبأن يتقى الله وبأن… وبأن… وبأن… صفحات! أين مثل هذا؟ وهذا محسوب على السُلطان، يُتهَم بأنه من علماء السُلطان، وقال كلاماً شديداً!
سُفيان الثوري قصته واختصامه مع المنصور معروفة، حتى فر بآخر من وجه المنصور، وقد ذكرنا قصته عدة مرات! يدخل على المنصور ويقول له يا أبا عبد الله – يُكنى بأبي سعيد وبأبي عبد الله، يقول له يا أبا عبد الله، على عادة أكثر المُحدِّثين طبعاً – عظني، فيقول له فيما أعظك؟ هل عملت فيما علمت لأعظك فيما جهلت؟ فسكت واحمر وجهه، طبعاً شديدة عليه أمام الناس، خليفة هذا، ليس رجلاً عادياً أو حاكماً في دولة، هذا خليفة، أي إمبراطور! يقول له هل عمليت فيها علمت لأعظك فيما جهلت؟ كلمات شديدة! ثم يقول له بعد ذلك وقد كظم غيظه وتصبَّر يا أبا عبد الله فلِم لا تختلف إلينا؟ إذا نحن جهلاء وما إلى ذلك فلتختلف إلينا لكي تُعلِّمنا! قال لأن الله يقول وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ۩، أنت من الظلمة!
هشام بن عبد الملك من طُغاة الأمويين، يأتي إلى مكة المُكرَّمة – شرَّفها الله وحرسها – ويطلب أيضاً أن يُدخَل عليه بعض العلماء، الحاكم يطلب! فيأتي طاووس اليماني، طاووس من اليمن، ليس من أشراف مكة أو المطينة، يأتي طاووس اليماني ويدخل عليه بحذائه، لا ينزع حذائيه إلا عند البساط الذي يجلس عليه الخليفة، وهو يجلس إلى جانبه دون أن يستأذن، ويقول السلام عليك يا هشام، كيف أنت يا هشاك؟ فغضب حتى هم بقتله، كيف تقول يا هشام؟ اليوم الصعلوك منا لا يرتاح إذا قال له أحدهم يا فلان، إذا حج فلابد أن تقول يا حج، إذا كان شيخاً فلابد أن تقول له يا شيخ، إذا كان دكتوراً فلابد أن تذكر الدكتوراة، هذه نفوس مريضة! هذا الخليفة غضب، وبعد ذلك صبر، ظل يقول له يا هشام، فالمُهِم نقم عليه، فقال له ما تنقم مني؟ لماذا أنت زعلان؟ قال له يا رجل أنت دخلت علىّ بحذائك، بنعليك! قال له إن الله – تبارك وتعالى – أمر موسى وقال له فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۩، اخلع نعليك لأنك هنا، لكن هذا ليس وادياً مُقدَّساً، هذا مجلس عادي ومكان عادي، ما هذا؟ هل أنا أُخاطِب ربي عز وجل؟ حين دخل الوادي أمره بخلع نعليه، ونحن في هذه الحضرة خلعنا الحذائين عند البساط، هل لابد أن يكون هذا من على بُعد مائة متر؟ فسكت! قال له ولم تُسلِّم علىّ بإمرة المُؤمِنين، لم تقل لي يا أمير المُؤمِنين، قلت يا هشام، فقال له لأن الناس ليسوا كلهم – ليس كل الناس – راضين بإمامتك فلا أكذب، سأكون كذّاباً لو قلت لك يا أمير المُؤمِنين، هناك أناس غير راضين بإمامتك ولم يُبايعوك، فلماذا أكذب؟ انظر إلى هذه الجراءة، طبعاً أمثال هذه الأشهاد ملأت مُجلَّدات، ولا أقولها مُبالَغةً! تُوجَد مُجلَّدات عن قصص العلماء مع الحكّام، مُجلَّدات!
رجل سعودي – هو محمد بن سلمان، ربما تُوفي، رحمة الله عليه – جمع من كُتب التاريخ كتاباً لطيفاً في مُجلَّدين كبيرين عن قصص العلماء والحكّام، كلها من هذا القبيل، وهذا غير موجود في تاريخ أي أمة ثانية، لابد أن نكون واقعيين، طبعاً يُؤسِفك الأمر حين يأتيك أحياناً إنسان للأسف يدّعي العلمانية والليبرالية والحداثية في الفكر وما إلى ذلك وهو لم يقرأ لا الإسلام ولا مبادئه ولا عقيدته ولا تاريخه ولا تراثه، ثم يتكلَّم فيه، في كل شيئ في الإسلام! يقول الإسلام كذا وكذا والتراث الإسلامي كذا وكذا، وهو لم يقرأ للأسف الشديد، وهؤلاء إذا قرأوا لا يقرأون الإسلام، يقرأون عن الإسلام! والفرق كبير جداً بين أن تقرأ الإسلام من مصادره العتيدة ومن تاريخه الوثيق وبين أن تقرأ عن الإسلام من كتابات الصهاينة والمسيحيين المُستشرِقين والشرقيين والغربيين، يا أخي لماذا؟ هذا تراثك! ألهذه الدرجة تشعر بالمعرة من نفسك ومن تراثك ومن دينك ومن حضارتك التي سادت أربعة عشر قرناً؟ طبعاً هذا لا يعني أن نُؤمثِل تاريخنا وحضارتنا، بالعكس! كما قلنا تاريخنا في مُعظَمه فيه استبداد وفيه جور، ليس تاريخ الشورى وليس تاريخ الشعب أبداً، لكن مع ذلك ينبغي أيضاً أن نكون مُنصِفين، أي لا أن نطمس على جميع الجوانب حتى المُشرِقة في هذا التاريخ، ثم – الاعتبار الثاني – أن هذا التاريخ وأن هذا الدين وهذه التجربة التاريخية لهذا الدين قدَّمت الكثير الكثير الكثير للبشرية، الكثير! في الميدان الفكري النظري وفي الميدان العملي التطبيقي، حين ساست الشعوب، حين فتحت البلاد، حين نشرت الحضارة والمدنية، حين لم تُمارِس الاضطهاد والتصفيات العرقية والجنسية للآخرين، قدَّمت! لا تُصدِّق أنها لم تُقدِّم، في المُقابِل قل لي ماذا قدَّمت السوفيتية أو الشيوعية للبشرية؟ ماذا قدَّمت إلا الدمار والعار والشنار وذبح الناس وإلغاء البشر في سبعين سنة؟ بعد ذلك – الاعتبار الثالث والأخير – تجربتنا عمرها ألف وأربعمائة سنة، عُمِّرت! تجربة مُعمَّرة، ليست تجربة استمرت لسبعين سنة ثم انتهت، كيف تُماثِل بين هذا وهذا؟ هذه سذاجة في التفكير! كأن يُقال الإسلام مثل الفكر الماركسي يا أخي، نفس الشيئ! لكن يُوجَد فرق كبير جداً جداً، فرق عظيم.
ولذلك درس اليوم – إن شاء الله تبارك وتعالى – سأُحاوِل أن أتناول فيه أيضاً بنوع من الاقتضاب والإيجاز ملامح الدولة في التصور السياسي الإسلامي، وكما سأل أحد إخواننا الأحباء في الدرس الماضي هل فعلاً قامت للمُسلِمين دولة؟ وهل الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان صاحب زعامة دينية أو زعامة سياسية كما ادّعى عليّ عبد الرازق طبعاً في كتابه الإسلام وأصول الحُكم؟ هو طبعاً نفى أن تكون هناك دولة في المدينة وقال الرسول لم يكن صاحب زعامة سياسية، النبي كان صاحب زعامة رسالية نبوية دينية، ليس له علاقة بالسياسة، وهذا طبعاً تفكير فارغ، مُجرَّد ترداد لبعض أفكار المُستشرِقين، حتى نستطيع أن نُجيب عن هذا السؤال، هل أقام الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – دولة أو لم يقم كما يزعم بعض الناس من العرب ومن المُستشرِقين؟
أيها الإخوة:
ما هي مُقوِّمات الدولة في الفكر السياسي؟ مُقوِّمات الدولة كصورة عُليا من صور المُجتمَع السياسي هي التي تُحوِّل في نظر فقهاء القانون الدستوري المُجتمَع الإنساني إلى مُجتمَع سياسي، هناك مُجتمَع إنساني، وهذا خالٍ من الدولة، هكذا يُسمى! فإذا ما برزت فيه صورة الدولة كصورة للتنظيم سُمي المُجتمَع السياسي، فيستحيل من مُجتمَع إنساني إلى مُجتمَع سياسي، المُقوِّمات أربعة: الأرض، الشعب، السُلطة العُليا التي يخضع لها الجميع، وهناك مُقوِّم رابع، عموماً تُذكَر هذه المُقوِّمات الثلاث دائماً، لكن هناك مُقوِّم رابع مُهِم جداً والكل مُتفِق عليه، وهو مُقوِّم المشروعية، ما معنى المشروعية؟ معنى المشروعية في الفقه الدستوري أو في القانون الدستوري أن يخضع الجميع حتى الرأس العُليا – أي بما فيهم السُلطة العُليا أو رأس السُلطة العليا، أي الحاكم أو الخليفة أو الرئيس، سمه ما شئت – لقانون واحد.
نظرية سيادة القانون باختصار، نظرية سيادة القانون تُساوي ماذا؟ تُساوي المشروعية، الآن المُفاجأة! وهذا كلام الفقهاء الدستوريين، لم يُوجَد قبل تجربة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المدينة دولة جمعت هذه المُقوِّمات الأربعة – طبعاً على وجه التحديد والخصوص المُقوِّم الرابع، مُقوِّم سيادة القانون أو المشروعية – قبل دولة رسول الله، غير موجود هذا في التاريخ! واسأل الخبراء والناس الفلاسفة – فلاسفة القانون الدستوري – وستجد أن هذا غير موجود، في مصر الفرعونية القديمة – مثلاً -، في المُجتمَع الفارسي، وفي غيرهما كانت السيادة لمَن؟ لشخص الحاكم، هو السُلطة العُليا المُطلَقة، إرادته تُساوي القانون، إرادته هي القانون! في إمبراطوريات أو دول أو تنظيمات سياسية أُخرى كانت السُلطة لمَن؟ لطبقة سائدة مُتنفِّذة، بحيث أن هذا القانون يسمح دائماً بالحفاظ وبتكريس وتدعيم مصالح هذه الطبقة بالذات، على حساب الطبقات الأُخرى، فهذا هو القانون! في دولة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المدينة كان القانون حاكماً على الجميع، حتى على الرسول! مع أن الرسول هو مُشرِّع مجازاً، فسُنته تشريعية، أي جُزء منها سُنة تشريعية، ومع ذلك الرسول يخضع كما يخضع غيره، وكذلك عائلته وآله، لو أن فاطمة بنت محمد – عليها السلام – سرقت لقطع محمد يدها، قال لقطع محمد يدها وهو صادق، عليه الصلاة وأفضل السلام، قال ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، ألا وإن أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المُطلِب، عمي أول واحد يُوضَع رباه، أول واحد! القانون سائد على الجميع، القرآن يقول فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ – الكل، كل طبقات المُجتمَع، لا تُوجَد عِلية ولا تُوجَد سِفلة، ولا يُوجَد مُميِّز بحسب اللون أو بحسب الأصل أو بحسب اللُغة، لا يُوجَد هذا، الكل سواء – حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ۩.
المُهِم السيادة المُطلَقة لماذا؟ للقانون، قانون واحد حاكم على الجميع، هذه الصيغة انبثقت لأول مرة طبعاً، الإنسان يدهش طبعاً ويأسف ويأسى في نفس الوقت حين نمتلك أمثال هذه المزايا الفريدة الفذة وبعد ذلك يأتي مَن يُجادِل ومَن يزعم أنه لن تقم حتى بمُسلِمين دولة والنبي لم يكن مُؤسِّس دولة ولا مُؤسِّس كيان سياسي حقيقي، ما هذا؟ ما هذا العبث؟ عبث غريب جداً جداً، طبعاً مُقوِّم الإقليم موجود، مُقوِّم الشعب موجود، مُقوِّم السُلطة العُليا – رسول الله – موجود، والمُقوِّم الرابع موجود، السيادة! سيادة القانون، أي المشروعية، مُقوِّم المشروعية كان موجوداً، من أول يوم أيها الإخوة الأفاضل أُسِّست هذه الدولة الفريدة الرحيمة العظيمة المثالية، أُسِّست وفق دستور يحكي المقاصد العامة والروح السمحة لهذا الدين في الكتاب والسُنة، وهو المعروف بدستور المدينة، هكذا نُسميه نحن الآن، دستور! هي مُعاهَدة، هي مُعاهَدة وقَّع عليها مَن؟ كل مَن دخل فيها، وكان مِن ضمن مَن شملتهم هذه المُعاهَدة اليهود، يهود بني عوف وتسع بطون – إذا أنثنا البطن على الأرجح – من بطون اليهود أيضاً، ليس فقط بني عوف، والنبي ذكرهم بطناً بطناً، يهود بني ثعلب، يهود بني النضير، ويهود بني كذا وكذا، بطناً بطناً! كلهم لهم مثل ما أثبت الوثيقة ليهود بني عوف، أي عشر بطون، عشر بطون من اليهود! الآن الشيئ العجيب، نُريد أن نرى ونقرأ هذا الدستور، هل فعلاً فيه مُقوِّمات دستورية حقيقية؟ فقهاء القانون الدستوري العرب يقولون هذه الوثيقة نادرة وعجيبة، أُعجوبة! صيغت بأسلوب واضح، لكن متين وجزل في نفس الوقت، وفي نفس الوقت تتميَّز بكل ما ينبغي أن يتميَّز به دستور دولة، دولة حقيقية عصرية، موجود فيها كل شيئ!
أولاً لم يعرف العرب قبل دولة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المدينة وحدةً على أساس عقدي، وإنما الوحدات كلها دائماً كانت على أساس قبلي، على أساس نسبي دموي، هذه الوحدات! ومن هنا كان تمزق الأمة العربية في الجاهلية قبل الإسلام، تمزقات عجيبة جداً جداً، وجاء النبي من أول يوم حرباً على هذه النُعرة – ليس النَعرة، النَعرة لحن، يُقال النُعرة بالضم – والعُبية الجاهلية بلفظه عليه الصلاة وأفضل السلام.
فإذن كان أساس الوحدة للأمة الجديدة هو ماذا؟ الدين، على أساس الدين! بمبادئه طبعاً الخالدة التي نعرفها جميعاً، تستقي منها هذه الوحدة، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في أول مادة – إن جاز التعبير طبعاً، عصري هذا التعبير – في هذه الوثيقة وفي ذلكم الدستور هذا كتابٌ من محمد بن عبد الله الرسول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام، طبعاً تختلف الألفاظ أحياناً قليلاً – إلى المُؤمِنين والمُسلِمين من قريش ويثرب ومَن لحق بهم – وأيضاً هنا يُوجَد شيئ عجيب – أنهم أمةٌ من دون الناس، أمة! على أي أساس هنا تحدَّدت الأمة؟ على أساس الدين، إلى المُؤمِنين والمُسلِمين، الإيمان والإسلام حدَّدا هذه الأمة، ما بُليت بتمييز – كما قلنا – على أساس اللون أو على أساس اللُغة، لم يُقل هذا رومي أو هذا حبشي وما إلى ذلك، لا! لا تُوجَد مُشكِلة، صهيب الرومي حبشي، سلمان فارسي، لا تُوجَد مُشكِلة على أساس العرق أو العنصر وما إلى ذلك، غير موجود هذا، أو القبيلة أو الشعب أو الفخذ، إلى آخر هذا الكلام الفارغ الخاص بالعرب في الجاهلية، هذا غير موجود! فقط الإسلام هو الجامع الأوحد، وهذا شيئ عجيب، لم يُؤثَر ولم تعرفه من قبل، وهذا الذي يسَّر عليهم وسهَّل عليهم الطاعة لرسول الله، أن يدخلوا في طاعته وفي أمره – عليه الصلاة وأفضل السلام – طبعاً، لأنه مُمثِّل لهذا الدين، هو رسول ونبي هذا الدين، عليه الصلاة وأفضل السلام.
الشيئ العجيب في هذه المادة أنها تقول ومَن لحق بهم، إذن هي قرَّرت قبل أربعة عشر قرناً ما لم يُعرَف إلا في العصر الحديث لدى توقيع المُعاهَدات الدولية بالذات، ما هو؟ مبدأ جواز الانضمام إلى مُعاهَدة بعد توقعيها، هذا فقط عُرِف في العصر الحديث، النبي قال هذا من أول مادة، قال ومَن لحق بهم، وقعَّنا وما إلى ذلك، لا تُوجَد مُشكِلة، إذا أراد إنسان أن يدخل بعد ذلك – بعد أن جف الحبر – فهذا يجوز ذلك، هذا لم يرق إليه القانون البشري الوضعي إلا بعد أربعة عشر قرناً تقريباً في العصر الحديث، موجود في أول مادة!
الآن هل الوحدة الدينية هي الأساس فقط الوحيد الفرد في الوحدة أو في تحديد الأمة؟ أبداً، لا! هناك أساس آخر، على أساس الإقليم، نحن قلنا الدولة دائماً: إقليم، شعب، وسُلطة عُليا، السُلطة العُليا صفتها دينية بلا شك ورئيس هذه السُلطة هو رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، هذا أول مُحدِّد وأقوى مُحدِّد، لكن هناك مُحدِّد الإقليم، ولذلك: وإن يهود بني عوف أمةٌ مع المُؤمِنين – إذن هم أمة، ليسوا منا، طبعاً مُستحيل أن يكونوا أمة من المُؤمِنين، هم ليسوا أمة من المُؤمِنين، هم ليسوا من أهل الإسلام، ولكن أمة مع المُؤمِنين – ولهم ما لنا وعليهم ما علينا.
إذن حدَّدت هذه الوثيقة – هذا الدستور العجيب – أساساً آخر للمُواطَنة، وهي كلمة عصرية، أي المُواطَنة! أليس كذلك؟ عصرية جداً، يُوجَد إذن هنا مفهوم المُواطَنة، وطن أو إقليم يحكم الجميع، والكل لهم حق مُشترَك فيه، هناك أمة تتحدَّد أو يتحدَّد هذا المفهوم على أساس ديني، وهناك أمة أوسع تتحدَّد على أساس مُواطَني، الوثيقة تقول هذا بوضوح!
طبعاً في مواد كثيرة تُبرِز هذه الوثيقة النادرة العجيبة والسبّاقة طبعاً مبدأي العدل والمُساواة، مواد كثيرة! اقرأوا هذه الوثيقة وسوف تجدون مواد كثيرة تُبرِز العدل والمُساواة، والعجيب أن تكرَّر فيها في أكثر من موضع – ربما في خمسة أو ستة مواضع على الأقل – موضوع نُصرة المظلوم والتألب على الظالم، يجب أن يكون الجميع يداً واحدة على الظالم، أياً كان هذا الظالم، مُسلِماً كان أو يهودياً أو غير ذلك، قرشياً كان أو أنصارياً من أهل المدينة، وأنتم تعلمون أن القرآن الكريم نزل ببضع آيات في زُهاء صفحة ونصف الصفحة ليُنصِف يهودياً، اتهمه جماعة من الأنصار بالسرقة وهو منها بريء، فجاء القرآن يُدمدِم على هؤلاء ويصفهم بالخيانة، بأنهم خونة! يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۩، وزيَّفوا على الرسول، ويُشدِّد! يُخاطب الرسول بلهجة شديدة جداً، أن يحذر أن يسمع لأمثال هؤلاء، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۩، مَن هؤلاء؟ مُسلِمون، مِن الأنصار! ومَن الضحية؟ مَن هذا المظلوم؟ يهودي، هو يهودي واليهود قد فعلوا ما فعلوا، لكن هذا المبدأ سارٍ على الجميع، مبدأ الإنصاف والعدل، على الجميع! ولا يُوجَد تمييز – كما قلنا – على أساس، لا تُوجَد استثناءات لمبدأ العدل في الإسلام، لا تُوجَد! وكذلك مبدأ المُساواة، وسأتحدَّث عنها ربما لاحقاً، وأقصد المُساواة القانونية، بلُغة القانون هناك مُساواة قانونية وهناك مُساواة فعلية، لا يُوجَد قانون يضمن المُساواة الفعلية، بالعكس! تعود بالنقض المُساواة الفعلية على المُساواة القانونية، وهذا غير واضح، سأشرحه في حينه – إن شاء الله – وفي إبانه، لكن المُساواة القانونية أيضاً مضمونة دون استثناء، المُساواة القانونية مضمونة لجميع الرعايا وجميع مُواطِني الدولة الإسلامية دون استثناء، ممنوع! لا تُوجَد استثناءات لأيٍ كان، فهذا وارد فيها.
هناك طبعاً بعض المبادئ في الوثيقة وهي ليست سياسية، ليست مبادئ دستورية ولا سياسية، إنها مبادئ – مثلاً – نستطيع أن نقول إنها مبادئ جنائية، مثل مبدأ شخصية العقوبة، هكذا يُسميه القانون مبدأ شخصية العقوبة، مبدأ شخصية العقوبة أنه لا يُعاقَب إلا الجاني، والجاني فقط، فلا يُؤخَذ إنسان بجريرة غيره كما كان يفعل الجاهليون قبل الإسلام، يقتل القاتل فلا يرضون بمَن قتل، لأنه مِن السِفلة، إنما يقتلون رأس القوم، رأس الأخصام! وللأسف هذه النُعرة وهذه النزعة الجاهلية لا تزال في عربنا إلى اليوم، في صعيد مصر وبعض الأماكن في الشام وما إلى ذلك، موجودة إلى اليوم للأسف، القاتل معروف وهكذا يسرح ويمرح – أكرمكم الله – دون أن يُمَس بسوء، ولكن يُؤتى إلى أحسن القوم – إلى أحسن قوم هذا القاتل – فيُقتَل، إنسان صيّن ديّن مُصلِ مُتعلِّم ومُثقَّف يُقتَل، قالوا حتى يحرقوا أكباد أهله بقتله، لماذا؟ ظلم شديد! العرب كانوا في الجاهلية هكذا، العرب بالمُناسَبة كان عندهم تمييز غريب جداً، حتى في العبادات! قريش كانت تُسمي نفسها الحُمس، أليس كذلك؟ حين يفيضون من عرفات لا يفيضون مع الناس، يقولون لا، الناس من مكان ونحن من مكان، والوقت مُختلِف! وحين جاء النبي يحج ظن كل المُسلِمين – حتى الذين أسلموا من قريش والمدينة – أن النبي سيفعل كما كانت تفعل قريش، لكنه أفاض مع الناس، مع الناس البسطاء الفقراء وما إلى ذلك، وأنزل الله ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۩، كلام قريش كلام فارغ، لا يُوجَد تمييز! هل في العبادة يُوجَد تمييز أيضاً فيُقال هذه قريش وهؤلاء ليسوا من قريش؟ لا يُمكِن، هذه العبادة للجميع، لكل أمة محمد، عرب أو غير عرب، قال ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ۩، لا يُوجَد مبدأ الحُمس هذا، كلام فارغ، انتهى! نسخه الإسلام ونسخه النبي في حجة الوداع.
الدية كانت تتفاوت، سُبحان الله! الدية كانت تتفاوت، دية الذكر ودية الأُنثى، دية مَن كان مِن العِلية ودية مَن كان مِن السِفلة، في القبيلة الواحدة تتفاوت دية ابن القبيلة بحسب منزلته في القبيلة، مَن عنده منزلة تختلف ديته عن الذي ليس عنده، وطبعاً ارجعوا إلى تاريخ العلّامة العراقي الكبير جواد عليّ المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام في ست مُجلَّدات، ذكر أشياء كثيرة من هذا القبيل، موجودة كلها بأدلتها التاريخية، حتى في أبناء القبيلة! في الإسلام لم يُوجَد هذا، وتحدَّد مبدأ ماذا؟ شخصية العقوبة، فلا يُؤخَذ ولا يُعاقَب إلا الجاني، والجاني وحده، هذا في الدستور! قد يقول لي أحدكم هذا في القرآن، ونحن نعرف أنه في القرآن، لكن الآن هذه الوثيقة جاءت لتُجرِّد من النصوص القرآنية والنصوص النبوية مبادئ دستورية، وهذا المُهِم الآن، دستور هذا! أليس كذلك؟ أعلى صورة للتنظيم في الدولة هي الدستور، أعلى شيئ في الدولة ما هو؟ الدستور، لا يُوجَد ما هو فوق الدستور، الدستور فوق الجميع، حاكم على الجميع، ومن هنا أهمية هذا المبدأ، أي مبدأ شخصية العقوبة!
أيضاً هناك مبدأ سياسي، الوثيقة تقول سلم المُسلِمين واحدة وحربهم واحدة، لا يُسالِم أحدٌ من المُسلِمين دون الآخرين إلا على عدل وسواء بينهم، ممنوع غير هذا! ما معنى الكلام هذا؟ ممنوع أن واحداً من المُسلِمين يُعلِن – مثلاً – في حالة الحرب الهُدنة أو حالة السلام ووضع الحرب لأوزارها من لدن نفسه، حتى وإن كان قائد الجيش، ممنوع! وينبغي أن تُؤخَذ شورى المُسلِمين وأهل الرأي في هذه القضية، قد يعترض أحدكم أو يسأل – يتساءل – ويقول لكن ألم يقل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث المشهور المُسلِمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم – هذا هو الشاهد – وهم يدٌ على مَن سواهم؟ كيف هذا وهو يتناقض مع دستور المدينة؟ النبي قال ويسعى بذمتهم أدناهم، يستطيع أي واحد من المُسلِمين أن يسعى بذمة المُسلِمين، وهناك واقعة حقيقية حدثت حين أراد أحد المُشرِكين القرشيين أن يدخل في جوار أم هانئ، ولكن الإمام عليّاً – عليه السلام – أراد أن يقتله، فقالت له لا، لا تستطيع ذلك، وليس ذلك إليك، قد أجرته، فقال لها كيف؟ المُهِم ماذا النبي؟ ونحن قد أجرنا مَن أجرتِ يا أم هانئ، وهي امرأة! هذه أم هانئ، فالنبي قال ونحن قد أجرنا مَن أجرتِ يا أم هانئ، فيُقال هذا الحديث وهذه الواقعة – وهي صحيحة طبعاً وثابتة، لا مطعن فيها – يتعارضان مع هذا المبدأ، مبدأ سلم المُسلِمين واحدة وحرب المُسلِمين واحدة، لكن هذا غير صحيح، لا تعارض! لماذا؟ لأن واقعة أم هانئ ويسعى بذمتهم أدناهم في حالات الأمان الفردي، يستطيع أي مُسلِم أن يُعطي كافراً أماناً فردياً، أي لكافر واحد، هل فهمت؟ تستطيع هذا، رجل كافر بينك وبينه صُحبة قديمة أو حتى دخل عليك، كما نقول بالعامية: أطنب عليك وقال لك أنا دخيل على الله ثم عليك، احفظني! فقلت له لك هذا يا أخي، أنت في ذمتي، فممنوع أن يُؤخَذ، لا يستطيع قائد الجيش حتى أن يأخذه، هذا كأصل! هناك استثناءات طبعاً وتفريعات فقهية لكن هذا الأصل، ونحن نُجير مَن أجرت، في الأمان الفردي، هل هذا واضح؟ لكن الأمان المجموعي – كأن تُعلِن انتهاء الحرب ودخول مُفاوَات سلمية مثلاً – ممنوع، لا تستطيع ذلك، لابد أن يصدر القرار عن السُلطات المُختَصة، قائد الجيش ومجلس شوراه مثلاً، السُلطة العُليا أيضاً في الدولة ومجلس الشورى، وما إلى ذلك، أي الجهات المُختَصة على كل حال، ليس واحداً! لا يستطيع واحد أن يفعل هذا، حتى رئيس الدولة وحده هكذا برأسه لا يستطيع أن ينفرد بهذا، ممنوع! حتى وإن كان وحده، هل النبي فعل هذا؟ قد تقول النبي فعل هذا في الحُديبية، أليس كذلك؟ غير صحيح، انتبه! النبي له خصوصية على كل حال، وهي واضحة للجميع، النبي صحيح كان رئيس الدولة وإماماً أعلى وفي نفس الوقت كان نبياً رسولاً، حتى في موضوع الشورى – وسوف نتطرَّق إليه سريعاً إن شاء الله – لا يُفهَم أن الشورى تُلزِم الرسول فيما أُوحيَ إليه فيه، هل هذا واضح؟ بالعكس! الوحي قاضٍ على الجميع، على الرسول وعلى أتباعه، إذا نزل الوحي فهذا يعني ماذا؟ هذا يعني وجود حكم إلهي، يُوجَد حكم إلهي من الله تبارك وتعالى، لا تُوجَد شورى مع الله ولا تُوجَد ديمقراطية مع الله، كأن تقول نُريد أن نُصوِّت على رأي الله، أستغفر الله العظيم، هذا غير موجود، كلام فارغ هذا! فهذه خصوصية، وليست لأحد بعد رسول الله، هل هذا واضح؟ بعد رسول الله لا يتمتع أحد بهذه الخصوصية، وبعض الناس يستشهد بموضوع الحُديبية – سوف نعود إليه – على أن الشورى غير مُلزِمة وإنما هي مُعلِمة، وهذا غير صحيح لما علمتم قُبيل قليل، فهذا المبدأ أيضاً ورد في صحيفة المدينة، وهناك مبادئ أُخرى كثيرة، يُنصَح بالرجوع إليها وقراءتها، فعلاً فيها فوائد كبيرة جداً جداً.
هذه الدولة النبوية هل مارست السُلط الثلاث التي تُمارَس في كل دولة؟ نعم، مُمارَسة واضحة جداً جداً، لا تُنكَر! ولذلك نعجب أن يُقال إنه لم تقم دولة لرسول الله في المدينة، السُلطة الأولى هي السُلطة التشريعية، السُلطة الثانية السُلطة القضائية، والسُلطة الثالثة السُلطة التنفيذية، هذا كان موجوداً على أوضحه وأبينه في مدينة رسول الله، في دولة رسول الله، وُجِدَت سُلطة تشريعية، وُجِدَت سُلطة قضائية، ووُجِدَت سُلطة تنفيذية، وأوامر القرآن الكريم والسُنة النبوية واضحة جداً في أنها لا يُمكِن أن ترى النور ولا أن تصير إلى حياة الناس وواقعهم المشهود إلا عبر دولة ومُؤسَّسات دولة، هل هذا واضح؟ بعض الناس يقول ائتني بآية واحدة تقول إن على المُسلِمين واجب إقامة دولة، غير موجود هذا النص، نقول صحيح، غير موجود، صعب أن تجد نصاً أقيموا دولة، فهذا المُصطلَح لم يكن معروفاً حتى، مُصطلَح دَولة ودُولة في اللُغة العربية معناه التداول فقط، ليس معناه هذه الهيئة السياسية العُليا في التنظيم للمُجتمَع الذي تُخرِجه من كونه مُجتمَع إنساني إلى صورة مُجتمَع سياسي، هذا غير موجود! ولكن في عشرات إن لم يكن مئات المواضع قد حمَّلنا القرآن تبعة أشياء كثيرة جداً جداً، لا نخرج من تبعتها إلا بماذا؟ إلا بإقامة دولة، كما قلنا في الدرس السابق! هل يستطيع مُجتمَع إنساني وليس مُجتمَعاً سياسياً أن يخوض حرباً وسلاماً؟ مُستحيل، هل يستطيع مُجتمَع إنساني أن يُبرِز هيئات ومُؤسَّسات تشريعية وقضائية وتنفيذية؟ مُستحيل، كل هذا مُستحيل! إذا ما معنى ذلك في النهاية؟ معنى ذلك ما فهمه الرسول وأصحابه من وجوب إيجاد دولة، تأسيس مُؤسَّسات تُشكِّل بُنى ومُفرَدات هذه الدولة، وهذا ما حصل تاريخياً، ولا يستطيع أحد أن يُقدِّم بين يدي رسول الله لكي يقول إنه أفهم وأدرى وأدرك لمرامي النص القرآني من رسول الله وأصحابه، طبعاً هذه عُنجهية وغطرسة وتجاهل للنصوص القرآنية وأيضاً لوقائع التاريخ الإسلامي.
إذن هذه الدولة مارست كل السُلط، فضلاً عن مُمارَستها للمهام العتيدة المعروفة أيضاً في كل الدول، مهامة – مثلاً – ماذا؟ الجيش والأمان والحماية، كان يُوجَد جيش، أليس كذلك؟ الجيش كان موجوداً! وصحيح أن صورة جيش النبي – عليه السلام – ليست كالجيش في الدولة الحديثة، أي لم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى الصحيح للكلمة، جيش مُفرَّد ومُتفرِّغ بالكامل، بالعكس! كان الجيش أقرب إلى مفهوم التعبئة العامة المُتواصِلة، حين كما يُقال تقتضي الظروف، وبالمُناسَبة الآن إذا قرأتم في بعض مراجع الفكر السياسي الحديث فستجدون أن بعض كبار نقاد الفكر الغربي رأوا أن هذه الصورة أفضل بكثير من صورة الجيش المُحترِف، هل تعرفون لماذا؟ هناك أسباب كثيرة، على رأسها أن الجيش المُحترِف مُكلِف جداً جداً للدولة، وفي نفس الوقت قد يعوق مشاريع التنمية، وهذا حصل في العالم العربي للأسف الشديد باسم الصمود، باسم التصدي، باسم القضية، وباسم كذا وكذا، كل المشاريع تعطلت باسم هذه القضايا الفارغة للأسف، ولم نر أي شيئ، لا يُوجَد لا صمود ولا تصدي ولا أي شيئ، كله في سلام فارغ ذليل.
تُوجَد إحصائية في الغرب هنا – هذه في الثمانينيات، في أواسط الثمانينيات – تُفيد بأن كل جُندي في المُتوسِّط في العالم – لكن هذه إحصائية غربية – يُكلِّف تقريباً ثلاثة آلاف وثمانمائة دولار سنوياً، كل طالب يُكلِّف أقل من أربعمائة دولار، كارثة! العلم والثقافة أقل من أربعمائة، لكن الجُندي يُكلِّف حوالي أربعة آلاف، أي عشرة أضعاف! لماذا؟ للقتل والدمار، لتدمير النفس وتدمير الآخرين كما حصل في الدول الشمولية، المفروض العكس هو الذي يحدث، الطالب يُكلِّف أربعة آلاف والجُندي يُكلِّف أربعمائة، الجُندي المُحترِف والجيوش المُحترِفة لابد وأن تُكلِّف الكثير جداً جداً، هذا أولاً!
ثانياً هذه الجيوش المُحترِفة في مراحل كثيرة من التاريخ وأيضاً في واقع العرب والمُسلِمين الآن اضعفت المُجتمَع المدني، وأضعفت المُجتمَع والأمة بشكل عام، في حين قوت ماذا؟ تغول الدولة وتغول السُلطة، أليس كذلك؟ فللأسف بدأت تُمارِس دوراً سلبياً، في مُنتهى السلبية! بدل أن يكون دورها العتيد الأول حماية الأمة وحماية الشعب والناس صار دورها قمع الأمة وقمع الشعب والناس من أجل المُتنفذِّين القلائل، وهذا وضع خطير جداً جداً، والأمة ضعيفة! لكن انظر إلى مُجتمَع رسول الله، كان مُجتمَعاً مُسلَّحاً، الكل يحمل السلاح، كل واحد عنده الحق في حمل السلاح، وفي حالة النفير كانت التعبئة تحصل بشكل بسيط، بنداءات مُعيَّنة أو بخُطب جُمعية وما إلى ذلك، فيخرج الناس إلى النفير، فضلاً عن الحث على الجهاد من العلماء والأئمة، فالأمة كانت قوية وتستطيع أن تقول كلمتها.
قد يعترض بعض الدستوريين على هذا الكلام بقوله ولكن هذا قد يُفضي إلى اختلال ميزان الضبط السياسي، أي الــ Political Order كما يُسمى، الــ Political Order هو الضبط السياسي! ما معنى الضبط السياسي؟ وكيف يختل ميزان الضبط السياسي في الدولة؟ إذا وُجِدَت هناك مراكز قوى أُخرى فرعية أو مُتحرِّفة – مُنحرِفة كما يُسمونها، أي خارجة عن مُؤسَّسات الدولة الرسمية – تستطيع أن تُنازِع الدولة في احتكارها للأمن وللعنف، أي جماعات مُسلَّحة، ميليشيات أو أحزاب أو أي شيئ، جيوب مُعيَّنة في الدولة، وهذا صحيح! هذا في المُطلَق هكذا أو عموماً وبالإجمال صحيح، لكن هذا يحدث في ظروف مُعيَّنة لابد من تقديرها في كل حالة، في ظروف اللاشرعية – انتبهوا – وفي ظروف انحرافات الحاكم الواضحة وعدم استجابته لتقويم الناس وتقويم أهل الحل والعقد يحدث مثل هذا، وبالمُناسَبة هذه الحالة للأسف هي التي حصلت أيام سيدنا عثمان بن عفان، أليس كذلك؟ في ظروف كان فيها الشعب فعلاً كله مُسلَّحاً والكل كان عنده الحق في حمل السلاح، تكوَّنت هذه الجيوب، انتظمت في شكل جماعات مُسلَّحة، بلغ تعدادها تسعة آلاف، وانتهت بقتل هذا الشهيد المظلوم، أليس كذلك؟ لكن لا نستطيع – وأنا سأقولها أيضاً بوضوح – أن نُنكِر فعلاً أنه في الشطر الآخر أو الثاني من خلافة سيدنا عثمان بن عفان – عليه الرضوان والرحمة – حصلت انحرافات وتجاوزات وأشياء غير مرضية، لا نستطيع أن نُحمِّل سيدنا عثمان التبعة كاملة، ولكن الولاة ورؤساء الأجناد لهم دور أيضاً، المُهِم هذا موجود، مَن قرأ التاريخ بإنصاف من غير تعصب ومن غير تحيز يعرف هذا، وبالمُناسَبة كانت هناك بضع فُرص – امتدت فترة طويلة من الزمان نسبياً – للتقويم، لكن هذا لم يحدث للأسف الشديد، والأمور كانت تتفاقم وتزداد سوءاً، فضلاً عن أن سياسية سيدنا عثمان – لن نخوض الآن في تقويم التجربة العثمانية، فهذا موضوع طويل جداً – لم تمتز مُنذ البداية بماذا؟ بالصرامة والحدية، كان فيها قدر كبير من الليونة والمِران، بحيث أتاحت فُرصة لأمثال هذه الحوادث للأسف التي انتهت بهذه المأساة الكُبرى، نكتفي فقط بشاهد واحد مثلاً، وهو موضوع عزل الولاة، هذا لم يكن معروفاً من قبل بهذا الشكل، حدث على ما أذكر مرة أيام سيدنا عمر بن الخطاب، حين شكوا إليه سعد بن أبي وقاص، كان في العراق وكذبوا عليه، قالوا كذا وكذا وكذا، المُهِم بعد ذلك هو ناقشه الحساب وتبيَّن أنهم كذبوا عليه، ولكن حصل نوع الآن من الاستقطاب، الجمهور في جهة والوالي في جهة، فعمر يرى أن هذا الوضع غير سليم أن يستمر، فعزله وقال إني لم أعزله عن خيانة، كل ما رُميَ به باطل، ولكن أنا أعرف كيف أتصرَّف، صحيح! وهذا التصرف السليم، فهذا حدث مرة واحدة، لكن أيام سيدنا عثمان تواتر هذا الشيئ، حدث مرة مع أخيه من أمه الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط، قالوا يشرب الخمر ويفعل كذا وكذا، فاستشهد الناس وشهدوا عليه، قال أما الحد فنُنفِذه وأما هؤلاء الشهود فأمرهم إلى الله، الحساب عند الله إذا كذبوا وما إلى ذلك، فأقام الحد عليه وعزله، وهو أخوه لأمه، على كل حال موضوع شرب الخمر ثابت في صحيح مُسلِم، حتى لا يُقال زعموا وما إلى ذلك، في صحيح مُسلِم أنه شرب الخمر وصلى بالناس الفجر ثلاث ركعات ثم سلَّم وقال أزيدكم؟ هل تُريدون أن أزيدكم ركعة أو ركعتين إضافيتين؟ ما هذا؟ فهذه المسألة ليس فيها زعم، الناس كانوا يُصلون في المسجد والناس كلها شهدت عليه، وهذا كان في صلاة الفجر، وهو في صحيح مُسلِم، فهذه ليست رواية تاريخية في الطبري وما إلى ذلك.
على كل حال عزله، ووضع لهم بعد ذلك والياً آخر, وهو بشير بن سعد تقريباً، بعد فترة قالوا لا، لا نُريده أيضاً هذا، ومنعوه من أن يدخل المدينة، البصرة! فقال إذن سنعزله، تُريدون مَن؟ قالوا نُريد أبا موسى الأشعري، فقال له تعال يا أبو موسى وأتى أبو موسى، وهكذا! وهذا غلط! غلط أن يستمر الخليفة دائماً لآراء الناس بمثل هذه البساطة ومثل هذه المرونة، في النهاية انتهى الأمر بماذا؟ بأنهم طلبوا عثمان نفسه لكي يُعزَل، قالوا أنت نُريد أن نعزلك، فكان هناك نوع من التسامح، نوع من المرونة، ونوع من كذا وكذا، لم يكن في صرامة وحدة سيدنا عمر بن الخطاب، لأن سيدنا عثمان كان في الثمانين من عمره، قد أناف على الثمانين، شيئ طبيعي سيكولوجياً وما إلى ذلك أن يُصبِح الإنسان أكثر رحمةً وأكثر مرونةً وأكثر شفقةً، هذا شيئ معروف، ضعف إنساني! لذلك سيدنا عمر كيف تُوفي؟ كان في الثالثة والستين من عمره، أليس كذلك؟ كان في الحج وقال اللهم قد انتشرت رعيتي – أصبحت كبيرة، وهناك دولة كثيرة وما إلى ذلك – وضعفت قوتي، وإني أخشى التضييع والتفريط فاقبضني إليك غير مُضيِّع ولا مُفرِّط، يقول الراوي فوالله ما أتت عليه جُمعة – أسبوع واحد – حتى توفاه الله، استُشهِد! لم يُرِد هذا، وهو كان قوياً، كان في الستين ولا يزال عنده قوته ونفسيته القوية وما إلى ذلك، لكنه قال أنا كبرت، بدأ يحس بالضعف، ضعف الإنسان! ضعف بشري يعتري أو يعتور أي إنسان، شيئ طبيعي! فهذه الظروف لابد أن تُلحَظ مُجتمَعةً.
فيُمكِن أن يُقال نعم هذا يحدث في ظروف مُعيَّنة لابد أن تدرس على حدة، لكن ربما يكون الواقع الأكثر سلامةً فعلاً، وبالمُناسَبة للأسف بعض الناس يتخذ من التنظيمات الحديثة ومن الفكر السياسي الغربي الحديث مرجعية مُطلَقة، فهذه الفكرة – مثلاً – عند بعض الناس غير قابلة للنقاش، ألا يكون هناك جيش مُحترِف بالصيغة الحديث وأن يكون الشعب كله جيش في لحظة مُعيَّنة، ها هو جيش إسرائيل تقريباً فيه هذه النظرية، أليس كذلك؟ وكذلك الحال مع الشعب السويسري بالمُناسَبة، الشعب السويسري كله مُجنَّد بهذه الطريقة، في لحظة واحدة الكل يصير جيشاً، كل الشعب السويسري! وهذه هي الفكرة التي نُريد نُناقِشها، بعض الناس لأنه لم يعتدها ولأنها ليست فكرة نمطية تتكرَّر دائماً في كل نظام يراها عجيبة جداً جداً، بالعكس! هذه تحفظ الأمة من ماذا؟ من تغول الدولة، وبالمُناسَبة من القوانين في علم السياسية أن كل دولة بما هي دولة تنزع إلى التغول، لابد أن نفهم هذا الشيئ كقانون، إذا لم نفهمه كقانون فسيكون من المستحيل أن نتعاطى بشكل سليم مع ظاهرة الدولة، ولذلك كيف لابد أن نتعاطى بشكل سليم؟ دائماً بمأسسة مزيد من الأفكار وخاصة الأفكار الرقابية على كل الطبقات المُتنفِّذة في الدولة، على كل مُؤسَّسات الدولة! وكما قلنا في الدرس السابق أن تكون هذه المُؤسَّسات الرقابية مُنفِصلة، أي تابعة للأمة وفي جانب الأمة، ليست في جانب الدولة.
حتى موضوع البرلمان الآن له مُدخلية، خاصة لو تحدَّثنا عن موضوع أهل الحل والعقد، بعض الناس دائماً يطرح قضية أهل الحل والعقد في الإطار التاريخي، وهذا ليس شرطاً، هذه قضية تاريخية، موضوع حتى مُصطلَح أهل الحل والعقد وكيف تبلور كان في ظل ظروف تاريخية، والأمور تتطوَّر وتختلف، مُمكِن نُبلوِر مُصطلَحاً آخر ومفهوماً آخر مُخالِفاً نسبياً، مُمكِن جداً! لكن الذي نُركِّز عليه هو الآتي، وهؤلاء لك أن تُسميهم أهل الحل والعقد ولك أن تُسميهم أي شيئ كوكلاء الأمة مثلاً، سمهم وكلاء الأمة، تُوكِّلهم الأمة للتعبير عن رغباتها وعن آرائها وعن مشاكلها مثلاً، في البرلمان أو في المجلس التشريعي أو في مجلس الأمة أو في أي شيئ، أيضاً سمه ما شئت، الآن الصيغة المطروحة للأسف أن هذه المُؤسَّسة – البرلمان – هي التي لها الحق في فصل بعض هؤلاء، أليس كذلك؟ أي الوكلاء، وهذا غير صحيح، لماذا؟ تُمارَس دائماً لُعبة الأقلية والأغلبية، بحيث أن الأغلبية دائماً تُمارِس سُلطتها على الأقلية، الأفضل بما أن هؤلاء وكلاء الأمة أنه لا يجوز – لا يجوز شرعاً حسب الفقه الإسلامي – لأحد أن يعزلهم إلا مَن وكَّلهم، أليس كذلك؟ نحن وكَّلناهم، نحن! هم يتكلَّمون باسمنا نحن، كيف تعزلهم أنت؟ فنحن الذين نعزلهم، ولا يستطيع أن يتمتع بحق عزلهم إلا مَن وكَّلهم، فكل مَن لم ينتخبهم – أي لم يُوكِّلهم – لا يستطيع أن يعزلهم بعد ذلك، مثل هذه المفاهيم البسيطة في الفكر الإسلامي لو طُوِّرت الآن ومأسسناها بشكل جيدة ستكون مُمتازة، تضمن دائماً جانب حماية أكبر للجمهور، جانب حماية أكبر للشعب، لكن هذا كله غير وارد للأسف الشديد، للأسف عندنا حالة عجيبة من الأُحادية أو الثنائية، حالة بعض المُفكِّرين العرب الإسلاميين الذي يستدعي التاريخ هو كما هو، حين يتحدَّث عن الدولة يتحدَّث عن الدولة – فقط دولة سيدنا عمر بن الخطاب – مثل ما هي، وبمُصطلَحاتها وما إلى ذلك، غير صحيح يا أخي! هذه لاءمت زمانها وتحدياتها وظروفها، لكن التطور الآن واضح بشكل غير عادي، والجانب الثاني للأسف في هذه الثنائية عن الذين يستدعون الفكر الغربي والتجربة الغربية هي كما هي، يستنسخونها بالكامل لكي تُطبَّق في ظروف غير ظروفها، هذا غير صحيح! أي هذا سلفي وهذا سلفي، هذا ناقل وهذا ناقل، لا يُوجَد مُبدِع! لكن نحن نُريد فكراً إبداعياً، وبالذات نُريد هذا الفكر الإبداعي أن يستمد وأن يمتح من خير ما عند الآخر، أحسن ما طوَّره الآخر، هذه خبرة إنسانية أيضاً، تجربة إنسانية مُحترَمة، مقدورة ومشكورة! وأيضاً – الأهم من ذلك والأولى – أن يستند على ويتكئ على ويمتح من ماذا؟ من أصولنا، من تراثنا، من فكرنا، ومن فقهنا، وفيه الكثير لكي يُعطيه! فيه الكثير لكي يُعطيه ولكي يُقدِّمه، لكن هذا يحتاج إلى اجتهاد ومُتابَعة الدرس والنقاش حول هذه القضايا، لابد من تفعيل العقل في مُدارَسة هذه القضايا.
نرجع ونقول إن هذه الدولة مارست كل المهام التي تعتاد أي دولة أن تُمارِسها، مُهِمة الأمة والحماية مثلاً، مُهِمة إبعاث وإنفاذ السفارات مثلاً، النبي أرسل السفراء إلى مُختلَف الدول، إلى مُختلَف القصبات ومُختلَف دول الجوار، معروف هذا دائماً في آخر كُتب السيرة، موضوع عقد المُعاهَدات مع الدول التي هي طرف في النزاع، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فعل هذا غير مرة، موضوع التعليم وبث التعليم في الأمة، في الرعية، وفي المُواطنين، النبي فعل هذا بعد بدر مُباشَرةً، أشياء كثيرة مارستها دولة النبي عليه السلام، مارستها بشكل سليم!
صحيح كما نقول دائماً لم تكن الدولة لا في عهد النبي ولا في عهد الخلفاء ولا حتى في عهد العباسيين والأمويين من قبل مركزية مُتغوِّلة كالدولة الحديثة، علماً بأن تغول الدولة ظاهرة حديثة، كل الدول القديمة لم تكن مُتغوِّلة كالدول الحديثة، وهذا – كما قلنا – الذي نبَّه إليه ماركس Marx وكان يحذره، وفعلاً هو رجل ذكي، بذكائه استطاع أن يخترق الزمان وحصل ما توقَّع، قال أخشى إن بقيت الأمور مُستمِرة على ما هي عليه أن يأتي يوم على هذه الدولة الحديثة وتبتلع المُجتمَع، حدث هذا! الآن تقريباً دول كثيرة – حتى هنا في الغرب الذي يقولون إنه ديمقراطي ويتحدَّثون عن الحرية – على هذا النحو، تقريباً هذه الدولة المُتغوِّلة ابتلعت المُجتمَع، هذه لدينا هنا، نستطيع أن نقول أمَّمت المُجتمَع، ليس وسائل الإنتاج وما إلى ذلك وإنما المُجتمَع كله بما فيه الإنسان، آخر ما أُمِّم حتى الإنسان نفسه، أُمِّم رأيه، أُمِّم فكره، أُمِّم رزقه ووظيفته وراتبه، الكل يأكل على موائد الحكومة والسُلطان، فالمُسكين مُؤمَّم، لا يملك حتى حرية أن يقول وأن يُعبِّر لكي يُنفِّس عما في نفسه، لأنه مُؤمَّم، يُحارَب في رزقه ويُحارَب في نفسه وفي عِرضه، فكل شيئ مُؤمَّم! فتغوَّلت هذه الدولة، لكن في التاريخ لم يكن الوضع كذلك بحمد الله، بالعكس! كانت هناك هوامش عريضة ونشطة وفاعلة للمُجتمَع المدني بالصيغة الحديثة كما يُقال أن يتحرَّك فيها، وهذه قضية أُخرى.
ما الذي حدث الآن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام؟ بعض الناس طبعاً مُباشَرةً يبدأ بسوداوية ليقول ما إن تُوفيَ الرسول حتى بدأوا مُباشَرةً يتنازعون على الخلافة، يُريد أن يُصوِّر أصحاب رسول الله المُهاجِرين والأنصار – خيرة هذه الأمة، أبر وأطهر هذه الأمة – على أنهم طمّاعون نهّازون للفُرص، قد أعماهم بريق السُلطة أو الحُكم، غير صحيح يا أخي! لكنه يقول لك لا، هذا موجود حتى في الطبري، موجود! عن سعيد بن زيد قال كره أصحاب محمد أن يمر عليهم بعض يوم وليس لهم خليفة، قال هم لم يتحمَّلوا حتى هذا ولو لثنتي عشرة ساعة، عجيب يا أخي! كيف تُفسِّر الأشياء التي هي من مزاياهم ومن خصائصهم على أنها من مثالبهم، هذه ميزة يا رجل، ميزة تُحسَب لصالح هؤلاء الصحابة، لماذا؟ أحسوا كما يُقال بلُغة العصر بالفراغ السياسي بعد وفاة الإمام الأعظم للدولة وهو الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام، لماذا أحسوا بالفراغ؟ هذا الفراغ كان ثقيلاً وباهظاً على نفوسهم، أشعرهم بالخطر المُحدِق بهم! لماذا أحسوا به؟ لإحساسهم بعظم خطورة وشرف وأهمية الكيان الجديد الذي عاشوا يتفيئون ظلاله، الدولة الإسلامية! في حين كانت تتوزَّعهم وتُمزِّقهم كيانات مُصطنَعة – كما قلنا قبلية، عرقية، ونسبية لا قيمة لها – تافهة في الجاهلية من قبل، أدركوا عظم منّة الله ورسوله بإيجاد هذا الكيان الجديد، الذي عاش فيه الجميع آمناً مُطمئناً وادعاً في مُساواة كاملة وفي عدالة تقريباً مثالية تسري على الجميع، فأحسوا أنه لابد من حماية هذا الكيان، وانتبهوا إلى أن التجربة التاريخية تقول لو لم يحدث ذلك فقد كانت حوادث الردة – قبل أن تكون حروب الردة – كفيلة أن تقضي على الإسلام وأن تجتثه من جذوره، تخيَّلوا لو لم تكن هناك دولة وتُرِك الأمر أسبوعاً أو أسبوعين، ماذا كان سيحدث؟ كان سينتهي الإسلام، ولذلك كرهوا – هذا وعي، عندهم وعي سياسي ما شاء الله عالٍ جداً – أن يبقوا بعض يوم دون أن يكون لهم خليفة، فاجتمعوا مُباشَرةً، والرسول لم يُفرَغ من تجهيزه، لم يُغسَّل ولم يُكفَّن، تركوا كل شيئ وذهبوا إلى سقيفة بني ساعدة، وهذه السقيفة مكان كان يجتمع فيه الأنصار – أوسهم وخزرجهم – لمُدارَسة شؤونهم العامة، سمع مَن بهذا الاجتماع “اجتماع الأنصار”؟ أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة أمين هذه الأمة، فهُرِع ثلاثتهم إلى السقيفة، ونستطيع أن نقول لقد تبلور في مُؤتمَر السقيفة أو اجتماع السقيفة ثلاثة آراء، وهذا معروف جداً! رأي الأنصار، رأي آخر لأحد الأنصار وهو الحُباب بن المُنذِر، ورأي المُهاجِرين، ثلاثة آراء! رأي الأنصار كان حامل لواءه سعد بن عُبادة، أن الأنصار هم أحق بهذا الأمر، فينبغي أن تكون الخلافة في مَن؟ في الأنصار، لأنهم أصحاب الدار الذين آووا ونصروا، فلهم فضل كبير جداً، وأما الحُباب بن المُنذِر – تعرفونه، صاحب شورى رسول الله في بدر، أهذا منزل أنزلك الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ إلى آخره، رجل فاضل وحكيم – فقال منا أمير ومنكم أمير، أي تكون المسألة مُشترَكة، مُنصَّفة! نصف السُلطة للمُهاجِرين ونصفها للأنصار، هذا الرأي لم يلبث سريعاً أن وقع، فحتى لم يقتنع به لا الأنصار ولا المُهاجِرون، لماذا؟ قال عمر له لا، والله هذا لا يكون ولا يجتمع اثنان في قرن، كيف تأتي باثنين وتربطهما في حبل واحد؟ لا ينفع! هذا الأمر لا يقبل التشريك، وهذا وعي سياسي كبير عند سيدنا عمر، وأيضاً هذا فرع مبدأ الضبط السياسي Political Order، الضبط السياسي فيه سُلطة واحدة عُليا، يخضع لها الجميع، ليست سُلطة مُشرَّكة، نصف ونصف! وهذه تُخضِع بعد ذلك المُجتمَع لحالة استقطاب جديدة – مُهاجِري وأنصاري – وبعد ذلك تتكوَّن مراكز قوى ومحاور قوى فيتشقَّق المُجتمَع ويدخل في حالة احتراب داخلي، هذا ضد الضبط السياسي، عمر قال له ولا يجتمع اثنان في قرن، لخَّص القضية كلها هذه بكلمتين، ولا يجتمع اثنان في قرن، ولم ينشب هذا الرأي أن سقط، لم يُدافِع عنه أحد غير مَن قاله، أي هذا الرأي غير دقيق، فانتهى هذا الرأي! الرأي الثالث رأي مَن؟ المُهاجِرين، وكان زعيم المُعبِّرين عنه هو أبو بكر الصدّيق، أبو بكر الصدّيق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال إن العرب لا تعرف هذا الأمر لحيٍ غير قريش، فإنها أوسطهم داراً ونسباً، وفي رواية الطبري أنه قال لسيدنا سعد بن عُبادة ولقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنت قاعد يا سعد – أي قال له من حُسن الصُدف أنك كنت قاعداً وسمعت الكلام هذا – أن هذا الأمر في قريش، الأئمة – قال النبي – في قريش، فبر المُسلِمين تبع لبرهم، وفجارهم تبع لفاجرهم، أقر سعد! قال له صحيح، لم يُقدِر أن يُكذِّب، هذا حديث! هل سيُكذِّب الحديث؟ قال له صحيح، سمعت الكلام هذا، فالمُهِم والعجيب أن جماعة كثيرة أو كثيرين من الأنصار على رأسهم أُسيد بن حُضير وآخرون قد قاموا وبايعوا أبا بكر، قالوا صحيح، بايع عمر وبايع أبو عُبيدة وبايع كثيرون، قالوا نعم، صحيح! وعمر طبعاً ذكر مُرشَّحات أبي بكر للخلافة، ثلاثة مُرشَّحات! المُرشَّح الأول قال إنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها، معروف الرجل هذا، أفضل المُهاجِرين، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ۩، وخليفة نبيكم على الصلاة والصلاة خير دينكم، النبي لم يستخلف في الصلاة إلا أبا بكر، لم يقل دعوا عمر أو عثمان أو عليّ يُصلي بكم، قال أبو بكر! وقالوا أبو بكر رجل رقيق، ابنته عائشة! فغضب النبي وقال إنكن صويحبات أو صواحب يوسف، مُروا أبا بكر فليُصل بالناس، يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر، واضح! هذه إشارة، فعمر فهم هذا وأقنع به الأنصار، قال لهم هذا كان خليفة الرسول على الصلاة والصلاة خير دينكم، وفي رواية خير دين المُسلِمين، وإذا رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ وهذه الحُجة احتج بها الإمام عليّ نفسه – عليه السلام – بعد فترة، عليّ تلكأ طبعاً ووجد في نفسه شيئاً، لأنه ليس بالرجل الذي يُجهَل مكانه والذي يُتجاوَز والذي يُقطَع في الأمر دون مشورته ودون رأيه، لكن في الحقيقة الأمر لم يتم تجاوزاً لعليّ، وإنما تم اتقاءً لفتنة، لماذا حتى هُرِعَ هؤلاء الثلاثة من المُهاجِرين؟ هُرِعَوا كما في كُتب التاريخ لدى الطبري وغيره خشية أن يحصل أمر، كأن يُقطَع من جهة الأنصار بأمر على نحو مُعيَّن يصعب بعد ذلك استدراكه، فتحدث فتنة، فهذا ليس تجاوزاً لعليّ، عليّ والعباس – عليهما السلام – شُغِلاً بجهاز رسول الله، وهذا شيئ طيب ويُحسَب لهم بلا شك، فهذا لم يكن من باب تجاهل مكانة عليّ – حاشا لله – أبداً، وإنما اتقاءً للفتنة، ولذلك حتى الأمر تم كما يُقال على عجلة، وقال عمر كما في المشهور لقد كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله المُسلِمين شرها، فمَن عاد بمثلها ضربنا عُنقه، بهذه الطريقة لا! لابد أن تتم بهدوء وبروية، ويُؤخَذ رأي أكبر قدر من أهل الرأي والمشورى في المُسلِمين، هذا المقصود طبعاً! وإلا أصلاً هي بشكل عام تمت بالشكل الصحيح، وكما قلنا في الدرس السابق أرقى شكل يُمكِن أن يصل إليه الفكر الإنساني – إلى الآن لم نصل إلى شكل أرقى من هذا الشكل – أن يأتي أهل المشورى وأهل الذكر وأهل الرأي لكي يُرشِّحوا شخصاً، أليس كذلك؟ أو أكثر من شخص، ترشيح وتزكية! أن هذا الشخص يصلح أن يكون خليفة، بالنسبة لنا نحن مُوافِقون عليه، لكن بعد ذلك الكُرة كما يُقال في ملعب مَن؟ الأمة، الأمة تقول كلمتها، وهذا الذي تم في تالي يومهم أو في ثاني يومهم، حيث خرج الصدّيق – وكان يجب وينبغي أن يخرج إلى الناس – في المسجد، هنا الآن للناس أن يستفتوا على هذا الترشيح، بلُغة العصر أيضاً نقوم بعمل استفتاء على هذا الترشيح، هل تُريدون هذا؟ هل أنتم مُوافِقون عليه أم أنكم غير مُوافِقين؟ فكل الناس لابد أن تقول رأيها، طبعاً في رواية أن أبا بكر أقالهم من البيعة، هؤلاء بايعوني وما إلى ذلك، قالوا لا نقيل ولا نستقيل، أنت خليفتنا وكلنا رضينا بك، وبُويَع الرجل! بعد فترة حين بايع الإمام عليّ – اختُلِف في هذه الفترة، وعلى كل حال هذه قضية تاريخية – استشهد – أي الإمام عليّ – أيضاً بنفس الحُجة، بنفس الدليل! قال رضيه رسول الله لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا؟ في الصلاة هو كان يؤمنا، فكيف لا نرضاه لأمر دنيوي؟ وبالمُناسَبة هذه العبارة عبقرية، لماذا؟ لأنها تُؤكِّد أنه لا حكومة ثيوقراطية – أي لا حكومة دينية – في الإسلام، لا تُوجَد حكومة دينية! الحكومة في النهاية كلها منشط مدني إنساني، قال لديننا ولدنيانا، الصلاة من الدين لكن الخلافة والحُكم وسياسة الأمور هي شأن دنيوي، طبعاً هذه العبارة غير واضحة، وأنا سأقول لكم كلمة واحدة – إن شاء الله – وقد ذكرتها قبل ذلك، بإذن الله هي صائبة وتُلخِّص مُجمَل الحق – بالعكس هي مقطع الحق – في هذه القضية الشائكة، يقولون المصدر! مصدر المشروعية، مصدر السُلطة، ومصدر التشريع، ما دور الشورى؟ وما دور الديمقراطية؟ قضية طويلة! وبعض الناس يُكفِّر حتى مَن يقول بأن الأمر ديمقراطي بين الناس وما إلى ذلك، لا يفهمون كيف هي القضية، لكن نحن نقول باختصار في الدولة الإسلامية – التي هي دولة مدنية بالمُناسَبة، ليست دولة ثيوقراطية، وسوف نرى الفرق بين دولة مدنية إسلامية ودولة ثيوقراطية دينية، ما الفرق؟ سوف نرى، سوف نقول هذا الآن، فهذا في الدولة المدنية وليس الثيوقراطية – مصدر التشريع ما هو؟ هل هو الشعب؟ لو صوَّت واحد وخمسون في المائة من الشعب على حل الربا أو اللواط – والعياذ بالله – هل سيصير حلالاً؟ مُستحيل! أليس كذلك؟ لو صوَّتوا بنسبة مائة في المائة فهذا أيضاً سيكون مُستحيلاً، لن يصير حلالاً، إذن ما مصدر التشريع؟ الدين، القرآن والسُنة، الله عز وجل! مصدر التشريع الدين، لكن مصدر السُلطة ما هو؟ انتبهوا! ما مصدر السُلطة؟ مَن يصير خليفةً؟ مَن يصير وزيراً؟ مَن يصير – مثلاً – برلماني؟ مَن الذي يُعطيهم هذه الأشياء؟ هل الله – عز وجل – يُنزِّل مرسوماً ويقول هذا يصير خليفةً أو هذا يصير وزيراً أم الشعب؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور الشعب، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم فقط هذه الكلمة باختصار تُلخِّص كل الإشكال في هذه القضية، مصدر التشريع الدين – الكتاب والسُنة – ومصدر السُلطة الشعب.
في رحلتي الأخيرة إلى سويسرا غضب أحد الإخوة – طبعاً هو من السلفيين المساكين كما تعرفون، تصوراتهم بسيطة وما إلى ذلك، يُحاوِلون أن يفهموا على قدهم – لأن أحد الإخوة – وهو شيخ أيضاً كان معنا – استخدم مُصطلَح الديمقراطية، فغضب وقال له كيف؟ سأسألك سؤالاً، الديمقراطية أنت معها أو ضدها؟ الديمقراطية عندنا كفر، والأخ تبرجل وبدأ يتكلَّم بكلام غير مُرتَّب، فقلت له انتظر، أنا سأقول لك شيئين، الديمقراطية حين نُفكِّكها هي شيئان: آلية لتداول السُلطة، فنحن معها، لماذا لا؟ جيدة وجميلة! يُمكِن أن نأخذ من هذه الآلية أشياء كثيرة، ميكانيزم Mechanism مُعيَّن أو آلية كما تُسمى، وخلفية فلسفية، هناك خلفية! كخلفية فلسفية فعلاً الديمقراطية كفر لأنها تُعطي الشعوب حق التشريع من دون الله، إذا وافقوا بنسبة واحد وخمسين في المائة على أن اللواط حلال فإنه يصير حلالاً، ما هذا؟ كفر هذا، كفر صريح! نحن ضد هذه الخلفية الفلسفية بالكامل، لكن كآلية وميكانيزم Mechanism نحن معها، وذلك في موضوع الانتخاب، موضوع الترشيح، موضوع البرلمانات، وما إلى ذلك، شيئ جيد هذا، بالعكس! عندنا سابقة فيه أيضاً، ويُمكِن حتى ألا نحتاج إليه أيضاً، فسكت ثم قال لي كيف؟ قلت له مصدر التشريع الدين ومصدرالسُلطات الشعب، فقال لي لا، الإسلام هو الذي يحكم، فقلت له كيف يحكم؟ هذه اللُغة تخل عنها، هذه اللُغة كارثية – قلت له – وأذهبت بنا في ستين مُصيبة كجماعات إسلامية، فقال لي كيف؟ قلت له هل رأيتم مرة في حياتك الإسلام وهو يحكم؟ أنا لم أره مرة، وكذلك التاريخ لم يره، أنت الذي تحكم أو أنا، المُسلِمون يحكمون! قل لي المُسلِمون يحكمون، لا تقل لي الإسلام، هذه اللُغة أنا لا أفهمها، لُغة التجريد لا يفهمها أحد، وهي لُغة خطيرة بالمُناسَبة، يتسلَّح بها الأيديولوجيون من الإسلاميين، وطبعاً هذه تقتضي بعد ذلك التكفير وتقتضي التعمية، وتقتل الفكر العلمي بالكُلية! لن يصير عندك قدرة على التفكير العلمي، لن تفهم شيئاً ولن تُفهِم شيئاً، تقول لي الإسلام يحكم! أي إسلام يحكم يا رجل؟ الإسلام لا يحكم، المُسلِمون هم الذين يحكمون، وبالتالي حين يحكم المُسلِم – حين يحكم عمر وتكون له أخطاء أو عثمان أو مُعاوية أو المنصور أو الآن حسن الترابي أو البشير أو الخميني أو رباني أو أي واحد – وتكون له أخطاء لا يتحمَّل الإسلام أخطاء البشر، نقول هذه أخطاء البشر النسبية وليس الإسلام، أليس كذلك؟ بشر الذي يحكم! فهذا البشر الذي يحكم حكم باسم مَن: باسم الشعب أو باسم الله؟ باسم الشعب، وهذا إذا حكم باسم الشعب طبعاً، أليس كذلك؟ إذا حكم باسم الشعب! والشعب له كلمة أيضاً في هذا الذي حكم باسم إذا جار وتجانف، سوف نرى ماذا يقول العلماء أيضاً، وهذا من المبادئ الدستورية في الدين، من المبادئ الدستورية لدينا في الشريعة الإسلامية، للشعب كلمته وعليه أن يُقوِّم هذا الحاكم الظالم المُتجانِف المُتنكِّب لسواء السبيل، فلا تقل لي الإسلام يحكم، لأن لو الإسلام يحكم لن يُوجَد عند أحد الحق في أن يتكلَّم ويعترض، أليس كذلك؟ فرجعنا إلى نفس خطأ نظرية الاشتراكية العلمية، أليس كذلك؟ حين قيل البروليتاريا هي الدولة والدولة هي البروليتاريا، الثورة هي الطبقة العاملة والطبقة العاملة هي الثورة، وبالتالي ستالين Stalin استطاع بمرسوم بسيط جداً أن يمنع أي نوع من التظاهرات، وعنده حُجة طبعاً! عنده كتاب صغير في اللينينية، قال كيف هذا؟ هل البروليتاريا هي التي تتظاهر ضد نفسها؟ نحن Stalin، فهذه هي ديكتاتورية الدولة العاملة، هي أفرزت الدولة، أليس كذلك؟ ونحن أنفسنا من هذه الطبقة، فالطبقة هي التي تحكم، وبعد ذلك غير مفهوم – قال ستالين Stalin – لدي أن تأتي الطبقة نفسها وتتظاهر ضد نفسها، ممنوع هذا الكلام، لن مكان للتظاهرات، وهذا كذب، لأن الطبقة العاملة لم تحكم، غير صحيح، التي حكمت طبقة أُخرى، هذه هي! فسوف نرجع إلى نفس الشيئ حين تقول لي الإسلام هو الذي يحكم وأنا الإسلام، أليس كذلك؟ أنا الإسلام ومن ثم ليس لك الحق في أن تنتقدني، غير صحيح! أنت الذي تحكم وليس الإسلام، وأستطيع أن أُقوِّمك، وأستطيع أن أُعيِّرك أيضاً بمعيار الإسلام الخالد، يحكم عليك وعلىّ وعلى أي واحد، يحكم على كل بشر، حتى على الخلفاء الراشدين! أليس كذلك؟ الإسلام الخالد والمعايير الخالدة، فالبشر هم الذين يحكمون وباسم أنفسهم، باسم الشعوب وباسم الناس، ليس باسم الله! وهذا هو الفرق – المقطع الوحيد – الكبير جداً بين الحكومة الثيوقراطية والحكومة البشرية المدنية العادية.
الحكومة الثيوقراطية يزعم فيها الرأس الحاكم أياً كان – سواء الإمبراطور أو البابا – أنه مُنصَّب باسم الإرادة الإلهية، الله – عز وجل – أراده أن يحكم، الله أعطاه هذا الحُكم، الله ولاه هذه القضية، هل تستطيع أنت أن تعترض على إرادة الله؟ هذا كفر، ممنوع! فهذه الحكومة الثيوقراطية، الدين – بحمد الله – لم يعرفها، تاريخ الإسلام بالمُناسَبة – كل تاريخ الإسلام – ليس فيه هذا، صحيح المنصور هذى وهرف كما يُقال – كما يهرف المجانين – وقال أنا ظل الله في الأرض لكن هذا كلام فارغ ولم يُوافِقه عليه أحد، أبو جعفر المنصور أخذ عهداً على أهل البصرة، قال لهم أي واحد فيكم بعد ذلك يخيس بعهده فدمه حلال لي، سأقتله وسيصير دمه حلالاً، أي عند الله ليس له علىّ أي شيئ، فقالوا له هذا هو ثم نقضوا العهد بعد ذلك، ومن ثم هو يُريد أن يذبحهم الآن، يُريدون أن يذبح الآلاف من أهل البصرة، فقالوا له انظر إلى رأي العلماء لأنك لست عالماً، فقال مَن عظم واحد؟ أبو حنيفة النعمان، قال لع تعال يا أبا حنيفة، تعال! ظن أنه عالم سوء، رضيَ الله عنه وأرضاه – أي عن أبي حنيفة – ورضيَ الله عن علمائنا أجمعين، فهم مُشرِّفون، هناك نماذج مُشرِّفة في التاريخ والحمد لله، وهي كثيرة جداً جداً بفضل الله، لكن هؤلاء أعاظمهم، قال له تعال يا أبا حنيفة، هؤلاء أخذت عليهم عهداً بكذا وكذا ثم خاسوا بالعهد، أفتحل لي دماؤهم؟ ما تقول؟ قال لا، قال لِمَ؟ هم أعطوني هذا! قال أعطوك ما لم يملكوا وشرطت عليهم ما ليس لك، فإن استبحت دماءهم أُخِذت بها أمام الله، فقال له أهذا هو؟ قال له هذا هو، ولا يُوجَد غيره، كلام فارغ – قاله – ما تقوله، هل أنت تضحك علىّ؟ هم – قال له – أعطوك ما لا يملكون، لا يملك الإنسان أن يُبيح دمه لإنسان، أليس كذلك؟ ولذلك حتى في الشريعة لا تملك أنت ليس أن تُبيح دمك وإنما أن تُبيح حريتك لآخر، كأن تقول أنا عبد عندك فاسترقني، ممنوع في الإسلام! أنت لن تصير عبداً وهو لن يصير سيداً، ممنوع! غير موجود هذا، هذه ليست ملكاً لك، هذه حرية فطرية، هبة إلهية لا تستطيع أن تتنازل عنها، كأن تقول أنا عبد، أريد من أحدهم أن يسترقني عبداً هكذا، ممنوع! لن تصير عبداً، وكذلك لا يُمكِن أن تقول لأحد أنا دمي مُباح، اقتلني يا رجل قتل رحمة أو قتل نقمة وأنت في حل منه، لا يُمكِن هذا أبداً، أنت آثم وهو آثم، فهذا كلام أبي حنيفة، قال له لقد أعطوك ما لا يملكون وشرطت عليهم ما ليس لك، فإن استبحت دماءهم أُخِذت بها أمام الله عز وجل، فقال له أهذا هو؟ قال له هذا هو، ولا يُوجَد غيره، ثم غضب منه لأشياء أُخرى بعد ذلك، وهي مفهومة لأنه ليس على نفس الموجة، فوضعه بعد ذلك في السجن ثم دسوا له السُم ومات مسموماً، كانت وصية أبي حنيفة أنه لا يُدفَن بالأرض الفلانية لأنها جرى عليها غصب من الخليفة، مغصوبة! وأن يُدفَن بأرض لم يُجر عليها غصب، هذه وصيته، هذا الذي يُريده ويتمناه من الله، الله أكبر يا أخي! رُغم أن هذا ليس ذنباً إذا دَفِن في أي أرض، لكنه لا يُريد هذا، لا يُريد حتى وهو ميت أن يُدفَن في أرض يُظلَم فيها الناس، فلما بلغ هذا المنصور تأثَّر جداً جداً – يُقال بكى – وقال مَن يُحِلني من أبي حنيفة حياً أو ميتاً؟ ظلمناه الرجل هذا، أي ظلمنا أبا حنيفة وتورَّطنا في ظلمه، وُضِعَ في السجن ومات في النهاية، دُس له السُم كما يُقال، والله أعلم.
على كل حال هذه القضية، إذن ليس عندنا حكومة ثيوقراطية، ما يُردِّده العلمانيون العرب – هناك حكومة دينية وحكومة كذا وكذا – غير صحيح، هؤلاء لا يفهمون شيئاً، أين الحكومة الدينية؟ ليس عندنا هذا، لم يكن أبداً في الإسلام حكومة دينية، لأن مصدر السُلطات هو الشعب، الشعب هو الذي يقول لك تعال، أبو بكر ماذا قال؟ وُليت عليكم ولست بخيركم، أنتم ولتوني! وإنما أنا رجل واحد منكم، وعمر قال نفس الشيئ، قال إنما أنا واحد من المُسلِمين، غير أن الله – تبارك وتعالى – جعلني أكثرهم وأثقلهم حملاً، ورطتي تكمن في أنني أكثر مَن عليه مسئولية، فقط هذه هي القصة! صاحب المُرقَّعة سيدنا عمر، هذا هو! لم يأخذ منها أي شيئ أبداً، ولما طُعِن – عليه الرضوان والرحمة – سألهم مَن استخلف بعدي؟ يُريد أن يرى رأي الناس حتى، حتى في ترشيح أُناس آخرين يُريد أن يرى الرأي، فقال له واحد عبد الله ابنك، أي عبد الله بن عمر، نحن سنُرشِّح هذا، عبد الله! فقال له بئس ما قلت، والله ما أردت بها وجه الله، قال له رجلٌ لا يستطيع أن يُطلِّق زوجته، ضعيف قال له هذا! أتُريد أن يكون هذا قائد أمة؟ إن يكن خيراً فقد أصاب منه ما أصابوا – إذا كانت الخلافة خيراً فنحن ابتُلينا بها – وإن يكن شراً فحسب آل عمر ما أصابهم منها، أي من هذا الشر! لا نُريد الآن، انتهى! مرة واحدة فقط، لم يجعلها في آل عمر، انظر إلى هذه النزاهة، انظر إلى هذه الشخصية العظيمة، انظر إلى هذا الإنسان الرباني، قدَّس الله سره الكريم.
فهذه هي القضية، إذن مصدر السُلطات هو الشعب، وهذا الذي حصل – بحمد الله – في بيعة كل الراشدين، دائماً كانت الكلمة الفصل والأخيرة للشعب في البيعة العامة، استفتاء على الترشيح! سواء كان الذي رشَّح شخص واحد مثلما رشَّح أبو بكر عمر أو مثلما رشَّح عمر الستة ووافقه أُناس أو مثلما رشَّحت السقيفة أبا بكر، بغض النظر عن كل هذا هو ترشيح، يأتي هناك استفتاء عام من الشعب كله على هذا الشخص المُرشَّح، تُريدون أو لا تُريدون؟ ثم يقول الشعب كلمته، وهكذا كان بحمد الله تبارك وتعالى، هكذا كان!
للأسف بعض المُستشرِقين ومَن لف لفهم من عربنا ادّعوا أن سقيفة بني ساعدة كانت مبدأ كل القلاقل والاضطرابات والشرور التي سيشهدها التاريخ الإسلامي بعد، لماذا؟ قالوا تمخضت في سقيفة بني ساعدة الأحزاب الإسلامية، ظهرت! هل هذا كان في السقيفة؟ قالوا نعم، ماكدونالد MacDonald – هذا مُستشرِق مشهور وهو أمريكي – قال ظهرت أربعة أحزاب، حزب المُهاجِرين – حزب Party -، حزب الأنصار، حزب الشيعة، وحزب الأرستقراطيين المكيين، انظر إلى هذا، تقول ما هذا الكلام الكبير؟ ما هذا الرجل المُحلِّل الذي يفهم التاريخ؟ لكن هو ليس مُحلَّلاً، هذا كلام فارغ، الغرض مرض! بالمُناسَبة الغرض عند أي واحد فينا – حتى نكون كمُسلِمين – مرض، كأن تكون مُغرِضاً – عندك غرض مُعيَّن – فتقرأ لكي تُثبِت وجهة نظر مُسبَقة، فالغرض مرض يجعلك تعمى وتصم عن الحقائق الصارخة اللائحة، لا تراها! وتبدأ ترى الأمور – سُبحان الله – بمنظور آخر، بعينين أُخريين، فسوف نرى هل فعلاً ظهر في سقيفة بني ساعدة حزب اسمه حزب المُهاجِرين؟ والله – كم عدد الذين كانوا في السقيفة؟ ثلاثة، أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة – لا تُوجَد رواية تاريخية – أتحدى وقد قرأت التاريخ والحمد لله – واحدة إن قريشاً أو المُهاجِرين انتدبوا هؤلاء الثلاثة لكي يُعبِّروا عنهم، بالعكس! كل ما هنالك وغاية ما هنالك أن هؤلاء الثلاثة تسامعوا بالسقيفة واجتماعها فهُرِعوا للسبب الذي ذكرته لكم، خشية أن يقطع الأنصار بأمر يصعب بعد ذلك استدراكه، وحدهم! تطوَّعوا وذهبوا، هذا أولاً.
ثانياً – بالعكس – علمياً ما معنى الحزب؟ يتكلَّم ماكدونالد MacDonald والعلمانيون العرب، يقولون حزب! ما معنى الحزب؟ هل – كما قلنا – لو طالب شخص أو طالبت جماعة مُعيَّنة بحقها في الحُكم سيُخوِّلها ذلك أن تكون حزباً أو يُخوِّلنا أن نُطلِّق عليها إنها حزب، علمياً وسياسياً هل هذا الحزب؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور لا، ثم قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا يكون الحزب حزباً إلا إذا كان له برنامج سياسي ومبادئ سياسية – أي Doctrines واضحة ومُحدَّدة، يتغيا من الوصول إلى السُلطة والتنفذ ماذا؟ تطبيق وتصريف وتكييف الواقع وفق هذه المبادئ، وفق هذا البرنامج السياسي! فهل كان لأبي بكر وعمر وأبي عُبيدة بن الجرّاح برنامج سياسي ثم طُولِب أبو بكر بتنفيذه؟ لا يُوجَد مثل هذا الكلام، هذا الكلام فارغ، قال وُجِدَ حزب المُهاجِرين، وهذا لم يُوجَد! لم يظهر وليس له أي أثر حتى في التاريخ، غير صحيح البتة الكلام هذا، غير صحيح البتة! بعد ذلك لو كان حزب المُهاجِرين هذا موجوداً ما الذي إذن لز واضطر أُسيد بن حُضير وبشير بن سعد وآخرين أن يُبايعوا أبا بكر ومُباشَرةً حتى انحازوا إلى جماعة المُهاجِرين؟ لماذا انحاز الأنصار وهم حزب إلى حزب آخر مُباشَرةً من أول جولة كما يُقال؟ وهم الكثرة وهؤلاء المُهاجِرون كانوا ثلاثة، ثلاثة! عمر حتى الكلمة التي رشَّح بها أبا بكر وذكر مُرشَّحاته للخلافة لم يكن يعرفها من قبل، وهو جالس هكذا فتح الله عليه، قال فزوَّرت في نفسي مقالة، وتعرفون القصة! وهو جالس هكذا خطر له هذا فجمَّع عشر جمُل ثم ذهب وقال ما جمَّعه بإذن الله، أي من البداية كان الأمر غير مُتفَق عليه أبداً، وحين غدوا إلى الصحيفة لم يكونوا يعرفون أن أبا بكر سيكون خليفة، بالعكس! كان عمر يظن أن أبا عُبيدة أمين هذه الأمة الذي سيكون خليفة، كل واحد كان يرى أن يضع الأمر في رأس الآخر، لكن الأمور صارت بطريقة أُخرى، بتقدير الله في تصريف الأمور صارت إلى أبي بكر الصدّيق، صار إليه هذا الحمل وهذه المسئولية الباهظة.
بعد ذلك قال حزب الأنصار، وسنقول كما قلنا في تفنيد قضية حزب المُهاجِرين، أليس كذلك؟ لم يُوجَد هذا، ولم تُوجَد وجهة نظر واحدة، ونحن رأينا هذا! كانت هناك حتى حالة خلاف شديدة وواضحة في مُجتمَع الأنصار، وحُججهم أيضاً مُختلِفة وطروحاتهم مُختلِفة، ولم يكن هناك أي برنامج سياسي – غير صحيح – أبداً، ولم يظهر هذا البرنامج حتى فيما بعد، بعد ذلك قال حزب الشيعة، وهذه أكبر فرية، الشيعة كمفهوم سياسي وحتى كمفهوم عقدي لم تظهر إلا بعد السقيفة بأمد طويل، في أُخريات أيام الإمام عليّ، مَن قرأ تاريخ الفرق الإسلامية يعلم أن الشيعة لم تظهر بالمعنى المعروف المأنوس إلا في أواخر أيام الإمام عليّ بالمعنى السياسي والعقدي، لم تظهر قبل ذلك، فكيف يزعم ماكدونالد MacDonald ومَن لف لفه من العرب العلمانيين وغيرهم أن الشيعة ظهرت في سقيفة بني ساعدة؟ مُستحيل، إطلاقاً! ولم يُمثِّل أحد هذا الحزب، إذا كان لهذا الحزب وجود! ثم إن الإمام عليّاً – عليه السلام – قد بايع أبا بكر، أفيكون شيعته المزعومون الموهومون الذين لم يشهدهم التاريخ آنذاك أكثر علويةً من عليّ نفسه؟ هو لم يُطالِب حتى بحقه ولم يُطالَب ببيعة له ولم يعرض حتى أي برنامج سياسي، قال حزب الشيعة، هذا كلام ماكدونالد MacDonald! كلام فقط في كُتب ضخمة لكن كله كلام فارغ، كلام فارغ! يُريدون أن يُحمِّلوا التاريخ ما لا يحتمل، هكذا يُنزِّلون عليه أفكاراً مُعيَّنة من أجل تشويهه طبعاً، من أجل تشويهه وتشويه أحسن ما فيه! وبعد ذلك قال حزب الأرستقراطيين – الطبقة الأرستقراطية العالية الغنية – المكيين، ماذا قال؟ هل هؤلاء من الطلقاء أم ما القصة؟ هل هم طلقاء ومُهاجِرون لكنهم من الأرستقراطيين؟ هذا غير واضح! العجيب أن ماكدونالد MacDonald فشل وأخفق أن يُمثِّل لنا بشخص واحد يُمثِّل هذا الحزب، لم يذكر هذا في كتابه! ائت لنا بهذا، قل لنا اسم شخص واحد يُمثِّل هذا الحزب، مَن هو؟ لم يذكر، حزب هكذا من غير أفراد، أيضاً موهوم، في الخيال! من نسيج الخيال، قال حزب الأرستقراطيين المكيين، وهذا كله من أجل تشويه تاريخ الدولة في الإسلام وتشويه الخلافة عندنا، لكي يُقال إن البداية بدأت في شكل نزاع وفي شكل انقسامات وما إلى ذلك، غير صحيح بالمرة! بدأت – بحمد الله – مُستقِرة، وخلافة أبي بكر وخلافة عمر بالذات – كما قلت في أثناء المُحاضَرة اليوم – أكثر فترة شهدت استقراراً سياسياً على مُستوى النظر وعلى مُستوى التطبيق، حتى الأفكار السياسية لم تتطوَّر كثيراً، كانت مُجرَّد امتداد تقريباً وتكريس وتدعيم لسياسة رسول الله في إدارة الأمة، فقط! فحتى على مُستوى النظر لم يكن هناك أي تطوير كبير لنظرية سياسية أو لنظريات سياسية في حُكم الأمة، لم يكن هذا موجوداً أيام أبي بكر وعمر، قد يقول لي أحدكم أيام عمر وُجِدَ هذا، لكن هذا لم يكن موجوداً، أيام عمر وُجِدَ التطوير في الجانب الأدائي الإداري، لكن في الفكر السياسي هذا لم يكن موجوداً، ولذلك الأمة كثَّفت هذا المعنى حين رضيت لهذين بل حتى للأربعة لقب الخلافة، قيل هذا خليفة رسول الله، ما معنى أنه خليفة الرسول؟ إذن هو سائر في نهج الرسول، يتتبع خُطى الرسول، يُكرِّس نفس المبادئ التي كرَّسها وأسَّسها الرسول، إذن هذا هو، إذن يُوجَد استقرار سياسي واضح، لم تكن هناك حالة تثويرية جديدة في النظرية السياسة على مُستوى الحُكم والخلافة، هذا لم يكن موجوداً، كان هناك استقرار حقيقي نظري وعملي، وهذه أكثر الفترات استقراراً نظرياً وعملياً، هكذا كان! بعد ذلك أيام سيدنا عثمان وغيره – سندخل في التاريخ وهذا لا يلزمنا الآن – اختلف الأمر، وبعد ذلك كيف طبعاً كان مسار الدولة الإسلامية؟ طبعاً انحُرِف، انحُرِف بها انحرافاً شديداً بجعلها استبدادية ووراثية ومُلكاً عاضاً أو عضوضاً بتعبير النبي، عليه الصلاة وأفضل السلام، هذا ما حدث للأسف الشديد، وهو ما تُدينه النصوص وما تُدينه الأمة إلى الآن، أليس كذلك؟ أو تَدينه كما يُقال، دَانه يَدينه ما تَدينه أو تُدينه النصوص، وما تَدينه أو تُدينه أيضاً الأمة إلى الآن.
بالمُناسَبة الآن الجماعات الإسلامية والإسلاميون من أمثالنا وأبناء الصحوة كلهم يدعون إلى تطبيق الشريعة، إلى إقامة دولة الإسلام، وإلى تشييد خلافة المُسلِمين، وليس في ذهن – ونتحدى أيضاً – ولا تصور واحد منهم أننا نُريد خلافة كخلافة بني عثمان أو المماليك أو بني بويه الشيعة أو العباسيين أو الأمويين، أليس كذلك؟ أبداً! لا يرضى مُسلِم إلا بشيئ يعكس مبادئ القرآن والسُنة والخلافة الراشدة، الكل! الكل يستوحي هذا الأنموذج، أليس كذلك؟ مما يُؤكِّد إذن أن وعي الأمة السياسي إلى اليوم لم ينحرف ولم يُستنزَف بالكامل، أليس كذلك؟ أبداً! وهذا بفضل ماذا؟ بفضل أن القرآن محفوظ، والسُنة محفوظة أيضاً في جُملتها بحمد الله تبارك وتعالى، والأمة تُعيِّر بهما دائماً، هما المعيار لكل تجربة واقعية ولكل تجربة تاريخية، ومن ثم تستطيع أن تحكم، هذا حسن وهذا أحسن، هذا جيد وهذا رديء، وهذا قريب وهذا بعيد من المثال، وهناك وهدة طبعاً بلا شك واسعة بين الواقع وبين المثال، الأمة دائماً تشرئب بأعناقها وبأفكارها وبآمالها إلى الوصول إلى المثال، أليس كذلك؟ من الواقع إلى أُفق المثال، أي من وهدة الواقع إلى أُفق المثال! مُتسلِّحة – كما قلنا – بمبادئ الكتاب والسُنة وأنموذج الخلافة الراشدة، مع التنبيه على أن ما تم في فترة الخلافة الراشدة التي امتدت ثلاثين سنة – ثُلث قرن – ينبغي أيضاً أن يُميَّز فيه أو يُماز بين شيئين: بين المبادئ العامة التي يُمكِن أن يُقال عنها مبادئ دستورية ضمنها وشرعها الكتاب والسُنة وطبَّقها هؤلاء الراشدون تطبيقاً مُتفاوِتاً طبعاً كلٌ بحسب جهده واجتهاده وظروفه وبين الحلول العملية التي اقتضتها ظروف كل واحد منهم، هذه الحلول تُعتبَر تجارب من حقلنا ومن ميراثنا، لكنها ليست مُلزِمة، ليس لها طابع الإلزام، هل هذا واضح؟
أما المبادئ الدستورية فسأذكر منها خمسة مثلاً، على رأسها مبدأ الشورى، أليس كذلك؟ إذا تكلَّمنا بلُغة دستورية فنحن عندنا مبادئ دستورية واضحة جداً في الشريعة الإسلامية، مبدأ الشورى موجود، مبدأ دستوري، هذا أولاً! ثانياً – المبدأ الثاني – مبدأ العدل، ثالثاً مبدأ المُساواة، رابعاً مبدأ طاعة الحاكم، خامساً مبدأ الرقابة على الحكّام، كل هذه مبادئ دستورية، وهي واضحة جداً في النصوص الإسلامية وفي الشريعة الإسلامية وفي وعي الفقهاء المُسلِمين قديماً وحديثاً بحمد الله تبارك وتعالى.
الشورى حديثها طويل جداً جداً، لكن نخلص ببساطة حقيقةً وانتصاراً لما يُمكِن أن تُعطيه النصوص إلى أن الشورى مُلزِمة وليست مُعلِمة كما يرى للأسف جماعة، كثيرون من الفقهاء يرون أنها مُعلِمة وليست مُلزِمة، غير صحيح! الشورى مُلزِمة وليس مُعلِمة، ما معنى مُلزِمة وليست مُعلِمة؟ أي غير مُلزِمة للحاكم إذا استشار، فالحديث عن الحاكم طبعاً، هنا ليست الشورى في القضايا الفردية، بالعكس! الشورى في القضايا الفردية غير مُلزِمة، أنت تستشيرني وليس شرطاً أن تأخذ برأيي، أو تستشير خمسة وليس شرطاً أن تأخذ برأيهم، يُمكِن في النهاية أنت ترتاح لما ارتاح له ضميرك وتستخير الله حتى، فهذه قضية فردية، بعضهم يقول هذه الاستشارة، أي يُوجَد فرق، يقول هذه استشارة، أما الشورى – كلمة الشورى هكذا – فهي فيما يخص الأمة، أي مصالح الأمة وقضايا الحكم، سياسة الناس! وقد عُرِفَت الخلافة بأنها – يُوجَد تعبير مشهور جداً جداً للخلافة – نيابةٌ عن صاحب الشرع، وهذا الذي عكسه لقب خليفة رسول الله كما قلنا، انتبهوا! أي تكريس لنفس المبادئ التي أسَّسها الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – وتأكيد وتدعيم وانطلاق منها وصدور عنها، نيابةٌ عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وأنا أرى أن الأحسن أن يُزاد به، أن يُقال في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، أي بالدين! لطن كيف يُمكِن أن نسوس به؟ كيف نسوس الدنيا بالدين؟ بالمبادئ الدستورية هذه، هل هذا واضح؟
هنا قد يقول لي أحدكم لكن لا يُوجَد تفصيل يا أخي، بالعكس! هنا عبقرية النص الإسلامي، سواء القرآني أو النبوي، مثلاً ننظر إلى الشورى، كم آية في كتاب الله تتحدَّث عن الشورى؟ هناك آياتان، آية في آل عمران وآية في سورة الشورى، مُسماة بسورة الشورى! في سورة الشورى وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ۩، وفي آل عمران وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩، هذه الآية العجيب فيها أنها نزلت بعد هزيمة المُسلِمين في أُحد، والتي كان سبب الهزيمة فيها نزول الرسول على رأي جماعة كثيرين من شبان الأنصار المُتحمِّسين، من شبان المُسلِمين! مِمَن لم يشهد بدراً لأنه كان صغيراً، والآن راهق البلوغ بسنة أو سنتين ويُريد أن يُجاهِد، فهؤلاء مُتحمِّسون! النبي قال أفضل شيئ أن نعتصم بالمدينة، أي سنكون في موقف الدفاع وهم سيكونون في موقف أضعف، هذا رأيي! وهو رسول الله، أكمل البشر عقلاً وأعظمهم حكمةً بلا شك وأسداهم رأياً، عليه الصلاة وأفضل السلام، لكن الشباب قالوا له لا يا رسول الله، نحن سنخرج لهم، نُريد أن نخرج! فقال لهم هو هذا ولبس لأمة الحرب، بعد ذلك هم أحسوا كأنهم استكرهوه، قالوا يا رسول الله لعلنا استكرهناك وحملناك على ما لا تُريد، فقال ما كان لنبي أن يضع لأمته بعد أن لبسها، أو كما قال، انتهى! أنا لبست عُدة الحرب ولن أستطيع أن أضعها، انتهى! هي هكذا سُنة إلهية، لابد أن نخرج، وهُزِموا! كانت الهزيمة واضحة طبعاً وأصاب الكفّار منهم مُصاباً كبيراً وجللاً، ماذا قال الله بعد هذا المُصاب؟ هذا المُصاب بسبب الشورى، أليس كذلك؟ إن جاز أن يُقال هي كانت شؤماً – وهي ليست شؤماً، بالعكس – فقد كان كذلك، لكن الله قال ماذا؟ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۩، الشورى يُمكِن أن تُخطئ في مرة، لكنها لا تُخطئ في تسع وتسعين مرة، ورأي الفرد يُمكِن أن يُصيب في مرة، لكن يُمكِن أن يُخطئ في تسعين مرة، أليس كذلك؟ هذا هو! وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۩، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ۩.
الشيخ الأستاذ محمد عبده رحمة الله عليه – علماً بأن هذا في تفسير المنار، وقد قال الشيخ المُجدِّد رشيد رضا وليس عندي عن الأستاذ الأمام في هذا الأمر إلا هذا، هذا رأيه الذي عاش ومات عليه – كان يرى أن هناك دليلاً ثالثاً أقوى من هاتين الآيتين في إيجاب الشورى، ما هو؟ عجيب! هذا من لطيف استنباط الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه، وهو كان ذكياً، أي هذا العالم، قوله تعالى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩، الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر فيه وجوب، وَلْتَكُنْ ۩، وبالمُناسَبة آيات الأمر والنهي كلها لو فسَّرناها تفسيراً أصولياً دقيقاً – سُبحان الله – سنجد أنها لا تكاد تخرج عن تكييف الحُكم بالإيجاب، بلُغة الأصوليين لو أردنا أن أن نُكيِّف الحُكم سنقول ما هو الحُكم الذي تُدلي به الآية وتعرضه الآية؟ الإيجاب، وجوب الأمر ووجوب النهي، كله هكذا! لكن هذا موضوع ثانٍ، إن شاء الله لعله يكون في مُحاضَرة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، فكيف هذه تدل على الشورى؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر واجب في العموم والخصوص، وما هو المُنكَر؟ أعم المعصية، انتبهوا! المُنكَر أعم من المعصية كما بيَّن الحُجة الغزّالي رحمة الله عليه رحمة واسعة، لأن لا يُقال معصية إلا مِن مَكلَّف، وأما المُنكَر فقد يكون مُنكَراً من غير مُكلَّف، انتبهوا! من مجنون أو من طفل صغير، ولذلك حين عرَّفه الإمام الغزّالي – انظروا إلى الدقة الفقهية التي عندهم، عقول فعلاً تثقب اللؤلؤ كما يُقال – قال والمُنكَر هو كل محظور الوقوع، ليس كل معصية! فهو أعم من المعصية، ولذلك في النهاية هو يؤول إلى ماذا؟ يؤول إلى مفهوم المصلحة والمفسدة، ومن هنا قوله هو كل محظور الوقوع، على كلٍ هذه قضية أُخرى.
يقول محمد عبده وما معروف أعرف من العدل ولا مُنكَر أنكر من الظلم، انتبهوا! إذن هذا يعني ماذا؟ يجب على الأمة دائماً أن تُحيط بالحاكم وألا يصدر في قضاياها إلا عن شوراها أو شورى أهل العقل والذكر فيها، لماذا؟ لأنه لو انفرد وقع منه الجور والظلم، وهذا أعظم المناكر، يقول هذا دليل واضح جداً جداً على إيجاب الشورى، لا يُمكِن! هذا مُستحيل، لا تستطيع أن تعمل بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المُنكَر من دون أن تُوجِب الشورى، فالآية تُوجِب الشورى، وهذا ملحظ ذكي جداً، سُبحان الله! في مُنتهى اللطف من هذا الأستاذ، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
يقول أبو هُريرة ما كان أحد أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسول كان يستشير في أمور كثيرة، والله أمره بذلك، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۩، قدوة! لكي يكون قدوة لنا، وهو مُحتاج ومُستغنٍ بما عنده من العقل والحكمة والتجربة وبما يأتيه من الوحي عن شورى المُسلِمين، لكن هذا التعميم لنا، ليكون قدوة.
أمس سمعتم أن الرسول تُوفيَ ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير، أليس كذلك؟ قد يقول لي أحدكم – هذا مُمكِن، وهذا سؤال ذكي – غريب يا أخي، النبي يرهن درعه التي جاهد بها في سبيل الله، ألا يجد مِن المُسلِمين مَن يرهن درعه عنده؟ هناك أغنياء، هناك الزُبير، هناك عبد الرحمن بن عوف، وهناك سيدنا عثمان بن عفان، قطعاً هناك أغنياء! لا تستطيع أن تقول لا يُوجَد أغنياء في المُسلِمين، في كل الأحوال يُوجَد أغنياء، لماذا لم يستقرض النبي منهم؟ لماذا لم يستدن منهم دون أن يرهن درعه حتى أو لماذا لم يرهن درعه عند مُسلِم؟ لماذا؟ تعليماً لنا، هذا له علاقة بالدولة أيضاً، تعليماً لنا حُسن المُعامَلة والتعاطي مع الآخر في المُجتمَع المُسلِم، حتى اليهودي أقترض منه وأضع درعي عنده، مُعامَلة! كل شيئ في حياة الرسول في أفعاله وأقواله درس لنا، هذه دروس! ينبغي دائماً أن نأخذها على أنها درس وقدوة وأسوة حتى نفهم ما فيها من عمق، ليس أن يأتي واحد ويُعطيه شعيراً وما إلى ذلك، لماذا؟ يُريد أن يُعلِّمنا كيف نتعامل معهم، ولذلك أنت تستغرب من الإمام شهاب الدين القرافي – الإمام الأصولي المالكي الكبير – في الفروق – وهو أشهر كُتبه – حين تحدَّث عن حقوق أهل الذمة، والله تستغرب، أُقسِم بالله! أنا أحياناً أستشعر الخشوع العجيب عند قراءة نصوص مثل هذه، أقول لو لم يكن هذا الدين حقاً – والله – لما أبرز فقهاء لكي يتكلَّموا بمثل هذا التسامح، يا أخي دين عجيب، دين عجبيب هذا! فعلاً إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، والله تكلَّم القرافي بشيئ عجيب، نحن مساكين! أنا أُقسِم بالله أنه لا يُمكِن أن نتمتع – نحن لا نتمتع ولا يُمكِن أن نتمتع – في ظل أي حُكم آخر بما يطلب القرافي أو بما يُطالِب القرافي المُسلِمين به إزاء اليهود والنصارى وأهل ذمة المُسلِمين، قال هذا على أساس ديني، على خلفية دينية، على خلفية تقوى الله تبارك وتعالى، التقرب إلى الله والتزلف إلى الله بفك عانيهم – قال – وإعطاء فقيرهم ومُلاطَفتهم ودفع الأذى عنهم والدعاء لهم بالسعادة، يقول القرافي تدعو للواحد منهم بأن يُسعِده الله وأن يُوفِّقه في أموره، غريب! وتحمل الأذى منهم، لا مخافةً بل مُلاينةً وحُسن خلق، أتحمَّل حتى أذاه! وحُسن مُجاوَرتهم و… و… و… المُهِم صفحة كاملة عن حقوق أهل الذمة، كأنه يتحدَّث عن أحسن إخوانك في الله، لو كان يتحدَّث عن حقوق أقلاء من أحسن إخواني والله لن يتحدَّث من أحسن هذه المطالب، يُطالِب المُسلِمين ويقول لهم افعلوا كذا وكذا وكذا، ما هذا؟ مع أهل الذمة؟ نعم مع أهل الذمة، طبعاً مع اليهود والنصارى، فهم في ذمتنا.
العلّامة القانوني اللبناني صبحى محمصاني – رحمة الله عليه – من أكبر علماء القانون العرب، قال عقد الذمة في الإسلام – وهذا له علاقة بالدولة أيضاً وله علاقة بالصحيفة أيضاً – جاء فيه الإسلام بتجديدن كبيرين جداً، لذلك لا يُمكِن أن يقول لي أحد لم تكن هناك عقود ذمة، لا! كان هذا موجوداً، عقود الذمة كانت في الجاهلية وعند الرومان وما إلى ذلك، كل الأمم عرفت عقود الذمة وكانت تُعطيها، موجود حتى عند الرومان، وهذا معروف! ولكن الإسلام جاء في عقد الذمة بتجديدن كبيرين رئيسين، التجديد الأول أنه أخرجهم من ذمة المُجير – أي العاقد، لا يُعطي واحد آخر ذمة – إلى ذمة الله ورسوله والمُؤمِنين، (ملحوظة) قال أحد الحضور الدولة، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، يُساوي بلُغة العصر الدولة، ما معنى أن نقول ذمة الله ورسوله والمُؤمِنين؟ السُلطة كلها، لكن أيضاً فيها بُعد ديني أكبر حتى من بُعد الدولة، حين تقول لي ذمة الله هذا يعني وجود خلفية دينية هنا، هذا يُخوِّف، ممنوع! ولذلك النبي قال مَن آذى ذمياً فقد آذاني، وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى، مَن آذى ذمياً لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة، الله أكبر! أي نحن مأمورون بهذا، والتجديد الثاني – الإضافة الثانية الرئيسة والعجيبة – ما هو؟ يقول الدكتور محمصاني – رحمة الله عليه – تأبيد عهد الذمة، مُؤبَّد، انتهى! أي لا يقبل الفسخ، لا تستطيع أنت أن تفسخه إلا إذا فسخه الآخر، إذا هو نقض العهد فالأمر سينتهى، هو الذي نقض العهد، فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۩، لكن أنت كدولة إسلامية لا تستطيع أن تنقض عهد الذمة، إذن هذا يُسمونه في لُغة الأصول ماذا؟ عقد لازم، لأن العقود اللازمة لا تقبل الفسخ، إذن هو عقد لازم، جعله الشرع الإسلامي الحنيف لازماً، لا يقبل الفسخ، أي عقد مُؤبَّد، فبنو قريظة لو لم يخونوا الرسول للزم الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يفي لهم بما عاهدهم عليه حتى الغاية، إلى النهاية! لا يُمكِن غير هذا، لكن هم الذين نقضوا فنكثوا على أنفسهم، إذن هم يتحمَّلون المسئولية هنا، فهذا تجديد كبير جداً جداً، من ذمة الفرد إلى ذمة الدولة، وبعد ذلك هو مُؤبَّد، عقد لازم لا يقبل الفسخ، شيئ عجيب!
الموضوع طويل والوقت قليل، نكتفي إن شاء الله، لعلنا نُكمِل في الأسبوع المُقبِل، لا يزال هناك كلام طويل في الدولة الإسلامية وتاريخها وبنيتها – Structure – الخاص بها، إن شاء الله نُكمِله في الأسبوع المُقبِل لكي نترك الآن فُرصة للمُداخَلات والأسئلة – إن شاء الله – وآراء الإخوة، فتفضَّلوا إن شاء الله، مَن كان عنده شيئ فليتفضَّل.
(ملحوظة) أراد الأستاذ عمر أن يتحدَّث، وهذا مُلخَّص المُدَخلة:
سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم له بالحديث قائلاً تفضَّل يا أخ عمر، فرغب في أن يُعطى الفُرصة لإيصال فكرته وألا يُحاسِبه فضيلته على كلامه بشكل حرفي، وإنما يُحاسِبه على جوهر الفكرة، فهو عالم كبير ويُريد أن يستفيد منه، فقال له فضيلته أستغفر الله العظيم يا أخي، ثم أوضح أن من غير المنطقي عند طرح أي فكرة أن يُهاجَم مَن قالها كالعلمانيين مثلاً، فرد فضيلته بأنه يُوصِّف ولا يُهاجِم، فهذا من حقه وهو لا يُهاجِم أحداً، ثم استتلى الأخ عمر قائلاً إن اطلاع فضيلته واسع جداً ما شاء الله، ومن هنا طلب منه أن يُجيبه عن سؤاله لأنه لم يُجِبه وهو يُريد أن يستفيد منه قدر الإمكان، وأشار إلى أنه استعار فكرة منه ثم وجد أنه هاجمها، وأن موضوع الآكلين على كل الموائد يحتاج إلى تحليل نظري.
تحدَّث عن إشكالية قوة وضعف الإيمان، ولاحظ وجود حالة تداخل عجبية بين الدين كنص وبين مَن فسَّروه، وهذه حالة صعبة، ثم تساءل هل ينبغي أن يُرَد على الدين كعقيدة أو على الذين قالوه وفسَّروه؟
أشار إلى أن موضوع التشكيك والاتهامات مُضِر حتى بمشروع الدكتور الفكري، وألمع إلى حالة البحث عن الحقيقة عند المفكرين، ثم أشار إلى أنه استمع إلى الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قبل أن يعرفه وأشاد ببُعده الفكري الرائع حين أيد ماركس Marx في موضوع آكلي الشعوب.
تطرَّق إلى موضوع الدولة الإسلامية، وأشار إلى أن الإسلام مُطلَق لكن البشر هم الذين سيحكمون وهم نسبيون، وبالتالي تساءل كيف يُمكِن لنسبي أن يُطبِّق المُطلَق؟ وكيف يُمكِنه إقامة مثل هذه الدولة لإنقاذ الأمة من أمور كثيرة كالجهل والتخلف؟ علماً بأنه لا يُريد أن يعيش على أطلال الماضي ويرغب في معرفة كيف يُمكِنه إقامة هذه الدولة الآن.
قال إذا وقفت قلة قليلة ضد إرادة الشعب باسم الله فإنها ستكون مُستبِدة، أي ستُمارِس الاستبداد باسم الله، وإلا سيُكفَّر الإنسان وسيقتلون أكثر مما قتل ستالين Stalin، ربما سيقتلون ما يقرب من مائة مليون، لأنهم سيحكمون باسم الله وباسم كتابه، فالعلمانيون لن يُعلَّقوا على المشانق وحدهم.
عبَّر عن إعجابه بفكرة قال إن وحيد خان طرحها في كتاب الإسلام يتحدى الذي أهداه الدكتور إياه، فالعلم والدين مُختلِفان، لأن العلم يهتم بالإجابة عن سؤال ماذا، عكس الدين الذي يُجيب عن سؤال لماذا.
ختم بأن الدولة الإسلامية تقوم على العلم في النهاية، فالنظام القائم الآن عبارة عن مجموعة من التطورات البشرية المُجتمَعية التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ومن هنا لابد من وجود أُناس مُبدِعين ليُقيموا دولة إسلامية بناءً على كل ما أنتجته البشرية من معلومات، لكن كيف سنجمع التناقضات الموجودة بين العلم والدين في دولة يتعارض فيها المُطلَق والنسبي؟
هذا مُلخَّص ما عُرِض من نقاط، وهنا شرع الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم في الإجابة عن الأسئلة بدوره قائلاً إن شاء الله أرجو أن أُوفَّق في الجواب عن أسئلتك، مجموعة – Gruppe – من الأسئلة! أولاً طبعاً هناك بعض التعليقات السريعة، وأرجو طبعاً ألا يُصوَّر موقفي بطريقة خاطئة، الإخوة كلهم سمعوا المُحاضَرة وسمعوا المُحاضَرة السابقة، أنا لا أستهلك نفسي ولا خطابي في مُواجَهة العلمانيين، أنا أُوصِّف دائماً، من واجبي دائماً حين أعرض لفكرة أن أُوصِّف الفكرة وليس مَن الذي يقول بها، وطبعاً في النهاية أنا لا أزعم أيضاً أنني بارئ من النزعة الأيديولوجية، أنا لست مع فكرة العلمية المُطلَقة التي تستحيل إلى علموية، بالعكس! أنا كمُسلِم عندي دعوة وعندي رسالة أعتبر أن عندي منزع أيديولوجي، أنا أُحِب أن أنصر الأفكار الإسلامية، المبادئ الإسلامية، والتوجه الإسلامي، هذه رسالتي! أنا لست رجلاً فقط أُفكِّر للفكر وأعرف للمعرفة فقط هكذا، لا! لست كذلك، ويل ديورانت Will Durant في مباهج الفلسفة يقول حتى عينا بقرة ميتة في الصحراء تستطيع أن تفعل هذا الفعل الموضوعي، الإنسان أعظم من هذا، الإنسان صاحب رسالة، كل هذه الأفكار العلموية المُطلَقة هي أفكار في النهاية نهيلية عدمية، إنسان في النهاية بلا أيديولوجيا، بلا توجه، بلا هدفية، وبلا غائية في الحياة هو إنسان تائه، ريشة في مهب الرياح، نحن لسنا كذلك! فأنا من موقعي الأيديولوجي العالم في نفس الوقت – ليس أيديولوجياً طبعاً تغيبياً، بالعكس! عالم مُؤسَّس على قاعدة معرفية وقاعدة علمية – أُوصِّف فكري كما أُوصِّف أفكار الآخرين، ولا أستهلك نفسي في هذا التوصيف، بالعكس! أنا أستهلك نفسي في مُناقَشة الفكرة وتفكيكها وتعريتها وتبيان تهافتها، لأنها فعلاً أفكار مُتهافِتة! من واجبي أن أفعل ذلك.
ثانياً بالنسبة لكوني – حتى لا يُسيء بعض الإخوة الذين ربما لأول مرة يسمعوا الكلام هذا – أيَّدت مقولة ماركس Marx الدين أفيون الشعوب وصرخة المُضطَهدين أو قال وزفرة المُضطهَدين فأنا لم أتحدَّث عن الدين بالمُطلَق، ثم إنك قلت إنك فهمت قصدي، لا! قصدي لم يُفهَم، أنا كنت مُصرِّحاً في عشرات الخُطب بأنني أتحدَّث عن الدين الرسمي، عن دين السُلطان، عن دين المشايخ الذين يحرقون البخاخير، عن دين الذين يعبثون بالنصوص، وعن دين الذين اتخذوا القرآن عضين وتفاريق، هكذا وصفتهم! أليس كذلك؟ قلت هم الذين عضوا القرآن، جعلوه تفاريق، يأخذون – مثلاً – آية قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ۩ لكي يقولوا لك الملك أو السُلطان أو الأمير الله هو الذي ولاه، هذا منطق ثيوقراطي، أليس كذلك؟ وهذا الدين منه بريء، الدين طبعاً حين يُصطنَع هذا الأسلوب السخيف المُتهافِت في تصويره للناس يُعتبَر أفيوناً للشعوب، وفعلاً يستطيع أن يُوجِّه هذه الرسالة على أحسن ما يكون، أن يكون مُخدِّراً يُخدِّر الناس، لكن الإسلام في جوهره – وأيضاً بدأت الخُطبة بالكلام هذا – أو الإسلام في نصه – إذا أردت هذا التعبير، أي في القرآن الكريم، النص العتيد المحفوظ المُتواتِر – هو حرب كاسحة ماحقة على كل قوى الطُغيان والاستبداد والإقصاء للإنسان، أليس كذلك؟ وهو كتاب مُنحاز بالكُلية للمُستضعَفين وللمقهورين، وعندنا مئات الأدلة من السُنة، من السير، ومن القرآن الكريم على القرآن هذا، فماركس Marx بالمُناسَبة لم يكن يعني هذا، ماركس Marx يتحدَّث عن الدين جُملةً، وأنا قلت في المُحاضَرة السابقة ماركس Marx لم يقرأ الإسلام، وقطعاً لو قرأ القرآن ماركس Marx لأُعجِب به أيما إعجاب، لو كان عنده بعض الإنصاف! لكن هو قرأ تاريخ الكنيسة وقرأ تاريخ الدين اليهودي، وعنده الحق أن يقول هذا، فعلاً هذه الأديان أو الشرائع هي أفيون للشعوب، وفعلاً قد عملت على ذلك، كانت أفيوناً للشعوب بلا شك ومُخدِّراً للشعوب، كانت تنحاز إلى المُتنفِّذين المُتسلِّطين، الإسلام شيئ مُختلِف ووضع مُختلِف بالكامل بحمد الله تبارك وتعالى، فهذا معنى كلامي! فأنا أُؤيِّد أن الدين يُمكِن للأسف على أيدي أحبار السوء أن يكون أفيوناً للشعوب، ابن المُبارَك قبلي قال بهذا، علماً بأن هذه الفكرة ليست لي ولا لماركس Marx حتى، النصوص الدينية تتحدَّث عن هذا، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۩، هو يصد عن سبيل الله وهو حبر، وهو راهب! لأنه راهب مُزيَّف، وحبر كذوب، أليس كذلك؟ أفّاك وأفّاق، هذا هو! وكذلك حين تحدَّث وقال لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۩، عن الأحبار والرهبان أيضاً، لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۩، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، والنبي تحدَّث عن مَن؟ تحدَّث عن أهل العلم فيهم أيضاً الذين كانوا لا يتناهون عن المُنكَر، في أحاديث أبي داود! عن العلماء وعن الأحبار، لحقتهم اللعنة أيضاً، لأنهم مُزيِّفون، آكلون بهذا الدين، يُدكنون كما أقول دائماً مُستعيراً تعبير شريعتي، يُدكنون بالدين – يفتحون الدكاكين – ويعتاضون، مئات الأحاديث عن رسول الله تتحدَّث عن علماء السوء، أليس كذلك؟ عن رهبان السوء، وعن أحبار السوء، في بعض الأحاديث أول ما يُبدأ بعذابه يوم القيامة عالم لم يعمل بعلمه، أليس كذلك؟ والمعنى ثابت في صحيح مُسلِم من رواية أبي هُريرة، أول مَن يُبدأ بتعذيبه وأول مَن تُسعَّر به نار جهنم عالم – والعياذ بالله – لم يعمل بعلمه، عالم! أي أنه شيخ، هذا يعني أنه شيخ ماذا؟ شيخ مُزيَّف هذا ومُزيِّف، شيخ رسمي، أليس كذلك؟ من الآكلين على كل الموائد، هذا أول مَن يُبدأ به، لكن العالم الحق يلتزم في شهادة الله والملائكة لله بالتوحيد والدينونة، أليس كذلك؟ مرتبة عظيمة جداً جداً!
في الحديث المشهور عن مُعاذ إذا رأيتم العالم يعتاد أو يختلف إلى أبواب السُلطان أو الأمراء فاتهموه على دينكم، من أصحاب العلاقات هذه وأصحاب الوسائط مع المُستبِدين! هذا يُتهَم، هذا ليس عالماً، فهذا يُتهَم والحمد لله كما قلت، بالعكس! وهذا عبر تاريخنا، أنت قلت الفكر تكلَّس وما إلى ذلك، بالعكس! أنا لم أُنكِر أن جُزءاً كبيراً من تاريخنا فيه استبداد، فيه ظلم، ملك عاض، ملك وراثي، لكن الذي قلته وأقوله – وأنا مُؤمِن به حتى تُقنِعني بعكسه – إن الأمة – بحمد الله – في المُقابِل – في المُقابِل وعلى العموم – كانت أمة قوية، بدليل أنها بنت حضارة، وموَّلت هذه الحضارة، أليس كذلك؟ نظام الأوقاف ليس نظاماً رسمياً، هو نظام شعبي، علماً بأنه موَّل كل حضارة المُسلِمين، كل الحضارة الإسلامية تستطيع أن تقول أكبر تمويل لها جاء من نظام الأوقاف، الأحباس! ونظام الأوقاف هذا منشط جماهيري، أليس كذلك؟ منشط مدني، من الناس! الأمة كانت قوية، الأمة هي التي كانت تذب عن البيضة وعن الحياض، هي التي تُدافِع، وهي التي كذا وكذا، الأمة! لكن انظر إلى القصور والعياذ بالله، لا يُمكِن لقصر رجل عباسي – لن أذكر مثل مَن – فيه أربعون ألف جارية أن يكون قصراً فيه خير أو يعكس الإسلام أو هو خليفة لرسول الله، مُستحيل! فيه أربعون ألف جارية، مُستحيل! قصر عبيد وقصر حريم، لكن الأمة – بحمد الله – كانت بخير كثير جداً جداً وما زالت إلى الآن، انظر إلى الأمة في العراق، في فلسطين، وفي كل مكان، أمة بخير، أمة قوية، أمة تثُير بالمُناسَبة غرائز الشر والغيظ في الآخرين، ولو كانت هذه الأمة فعلاً ميتة لما واجهت كل هذه الحرب وكل هذا العدوان، لأنها أمة يقظة وأمة حية وصاحية وتُخيف بحمد الله تبارك وتعالى، فيها هذا! وهذا بسر دينها بالمُناسَبة، والله لو كان عندها أي أيديولوجيا أو أي دين آخر أو أي فكر لمُحيت وسُحِقت هذه من قرون، أي هذه الأمة! لكنها أصبحت هكذا بسر هذا الدين العجيب، وقال رئيس مجلس العموم البريطاني جلادستون Gladstone بالمُناسَبة طالما هذا الكتاب – وهذا في سنة سبع وعشرين، قال طالما هذا الكتاب ورفع نُسخة من القرآن – بين أيدي المُسلِمين فلا تطمعوا أن تتغلَّبوا عليهم بالكامل، مُستحيل قال، لابد أن يُمحى هذا الكتاب، هو عرف هذا! وقالها قبله نابليون Napoléon، وقالها جاك سوستال Jacques Soustelle، وقد ذكرت هذا عدة مرات، أليس كذلك؟ الجنرال General الفرنسي قال هذا كتاب عجيب، لا يُحدِّث عن الماورائيات والأسرار والإلغازيات، قال يُحدِّثهم عن وجوب رد العدوان، وأبلغ من كلمة جاك سوستال Jacques Soustelle كلمة ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة، اقرأ قصة الحضارة، في تاريخه للحضارة الإسلامية في موسوعته الضخمة هل تعرف ماذا قال؟ قال إن قرآن محمد يُعلِّم أتباعه أخلاق الرجال، وإنجيلنا – قال – يُعلِّمنا أخلاق النساء، قال محمد ليس عنده أخلاق العبيد ولا أخلاق النساء، عنده أخلاق الرجال! وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ۩، يجب أن تنتصر، أليس كذلك؟ ثورة! هذه ثورة ساحقة ماحقة، وهذا حتى في ميدان التناصر الفردي، في الصحيح – هذا في الصحيح – حين سبت عائشة زينب احتملت زينب، ثم عادت فسبتها، فتغيَّظ النبي، هذا نوع من الظلم وبين أزواجه! فقال هلمي فسبيها يا زينب، فسبتها فتهلل وجهه حتى رُؤيَ بياض أسنان، مُمتاز! هذا نصر، لا للظلم، الدين كله يقوم على هذا الشيئ، كما قلت اليوم في الصحيفة أكثر من ستة مواضع على الأقل كلها تتحدَّث عن وجوب التألب على الظالم والأخذ على يده، أياً كان هذا الظالم! هذا الدين لا يُقال أبداً إنه أفيون الشعوب، كيف يكون أفيون الشعوب؟ وتاريخه يُؤكِّد أنه دين حرية وتحرر.
روجيه جارودي Roger Garaudy بالمُناسَبة قبل أن يُسلِم – وقد ذكرت هذا عنه – قال سر انتشار هذا الإسلام السريع – الذي هو مُعجِزة الفتح الإسلامي – أنه جاء بصيغة حركية جديدة للفرد والمُجتمَع، نسخت كل الصيغ السكونية التي أسَّستها فلسفات عديدة، مثل فلسفة حتى أرسطو Aristotle، اجتماعياً فلسفة سكونية، أفلاطون Plato فلسفته سكونية كلها، فلسفة أرستقراطية! أليس كذلك؟ فلسفة استعباد، برَّرت حتى الرق، وكذلك الأديان طبعاً، كالمسيحية واليهودية، لكن الإسلام ليس كذلك، جاء بصيغة حركية جديدة بالكامل، فعَّلت المُجتمَع وفعَّلت الإنسان.
فما أُريد أن أقوله حول هل تكلَّس الفكر أم لا هو الآتي، هل يُوجَد ظلم في تاريخنا؟ يُوجَد ظلم، هل يُوجَد استبداد؟ يُوجَد استبداد، لكن يجب أن نقول في نفس الوقت لم تكن كل هذه الأمة على هذا النحو، أنا لن أكون مُنصِفاً – أنا سأكون مُزيِّفاً كبيراً وأيضاً كذّاباً على التاريخ وعلى نفسي وسأفقد أمانتي العلمية وصدقيتي المعرفية – إذا زعمت أن التاريخ الإسلامي لم يشهد ليس العشرات وإنما المئات من الأئمة والعلماء الذين كانوا يُقاوِمون المُستبِدين دائماً، وعندي سلسلة خُطب عن الموضوع هذا، سلسلة خُطب عقدتها عن العلماء والسلاطين، ذكرت فيها عشرات الحوادث من هذه، وأنا ليس لي فيها أي شيئ، مُجرَّد ناقل! وكما قلت اليوم هناك مُجلَّدات عن هذا الموضوع، فالحمد لله إذا جاز للغربيين أن يفتخروا برجل مثل جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau أو بكلمة لفولتير Voltaire أو بكلمة لفلان أو لعلان – وإذا ذهبت لكي تُحصيهم ستجدهم معدودين بالمُناسَبة، أعني الغربيين الذين قاوموا الظلم، أليس كذلك؟ – فنحن عندنا الكثير، فولتير Voltaire نفسه الذي قال اسحقوا العار – مقولته الشهيرة – هو الذي صرخ في آخر حياته قائلاً ما لهؤلاء الناس يُدافِعون عن أسيادهم وعن ظالميهم وجلّاديهم كأن الأمر يتعلَّق بحريتهم؟ وهذه عبارة سبينوزا Spinoza، باروخ سبينوزا Baruch Spinoza استعاره فولتير Voltaire، كان يصرخ! يأس الرجل، يأس من المُجتمَع، رأى الناس المُفكِّرين والفلاسفة وما إلى ذلك يكذبون، الكل كذّاب ويُدافِع عن الظالم كأن الأمر يتعلَّق بحريته، أي كما تُدافِع عن حريتك، فولتير Voltaire نفسه يقول هذا! لكن تاريخنا شهد المئات من العلماء بفضل الله تبارك وتعالى، المئات – ليس العشرات وإنما المئات – من العلماء، وهذا حتى إلى عهد الملك فاروق – قبل الثورة – بل إلى عهد عبد الناصر يا سيدي، عبد القادر عودة كان من كبار القانونيين العرب – رحمة الله تعالى – وهو صاحب التشريع الجنائي الإسلامي، سيد قطب رحمة الله تعالى عليه، عشرات! محمد باقر الصدر مع صدام حسين، في العصر الحديث حتى! عليّ شريعتي مع الشاه، عشرات في العصر الحديث إن لم يكونوا مئات، وقفوا هكذا بكل شجاعة، وكذلك حتى شباب المُسلِمين، وشباب الجماعات الإسلامية الذين عُذِّبوا، حين تقرأ عنهم تُصدَم، أنا – والله – قرأت صفحات طويلة جداً من عذاباتهم ومراراتهم – والله وأنا صغير – ولم أستطع بعد ذلك أن أعود إليها، لا يحتملها قلب الإنسان، أُقسِم بالله! يندر أن تقرأ عن صفحات من التعذيب للبشر مثل الذي حدث في مصر وغير مصر، شيئ عجيب يا أخي، شيئ مُخيف! واحتملوا ذلك في ذات الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ ولم يرضخوا، وظلوا أمناء وأوفياء لدينهم ودعوتهم، عظمة! ما الذي أنشأها؟ ولذلك يجب أن أكون أميناً لأقول إن الأمة – بحمد الله تبارك وتعالى – لم تعدم الأمة العلماء والقادة ورجال الفكر المُخلِصين القوّامين بالحق، الذين كانوا دائماً في موقف المُمانَعة والمُقارَعة للظلمة، موجودون! في المُقابِل هناك مئات وآلاف أيضاً من العلماء والفقهاء الذين كانوا مُنافِقين وكانوا علماء سُلطان، لابد أن ندينهم، لابد أن نفضحهم، ولابد أن نُعريهم، ولا زال أخلافهم موجودين إلى اليوم، أليس كذلك؟ من الرسميين الذين يُبرِّرون كل شيئ، الواحد منهم يُفتي بالشيئ ونقيضه بعد سنة بل أقل من سنة، هذا موجود وهذا موجود، إذن لا تطلب مني أن أتحدَّث فقط عن الجانب المُظلِم، فهناك الجانب المُشرِق الذي يُبرئ طائفة من هذه الأمة، والنبي وعدنا ببقايا منهم، قال لا تزال طائفة من أمتي، أليس كذلك؟ لا تزال! موجودة وهي ظاهرة على الحق بإذن الحق تبارك وتعالى، لا يضرها مَن خذلها، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، هذا حديث في الصحيحين! هل أُكذِّب الحديث؟ والتاريخ صدَّقه، فهذه الطائفة موجودة باستمرار، وكما قلت لك اعمل مُقارَنة واقرأ، اقرأ تاريخ أوروبا – كل تاريخها من العصور الوسطى إلى الآن – والله العظيم – وأنا قرأته والحمد لله، وقرأت قصة الحضارة كله – لن تجد مُقارَنة بين عدد المُفكِّرين الأحرار والثوّار وبين العلماء الذين برزوا في تاريخنا، وهذا حتى في الثورات! وأنا تحدَّثت مرة نقلاً عن أبي الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين عن أن في فترة بسيطة جداً جداً – لا تكاد تُساوي نصف قرن – وقعت عشرات الثورات، كيف هذا؟ هذا يعني أنها أمة ثائرة، أمة مُتحرِّكة وأمة ثائرة! وهذا الذي يحدث الآن أيضاً، وهو الذي يصدم الآخرين، وبالمُناسَبة حتى السياسة الخارجية الأمريكية في احتلال العراق صُدِمت بالواقع الأليم، والآن بدأت بعض الكتابات – إذا كنت تُتابِع – تقول نعم غشنا بعض مَن يكتب الدراسات الاستشراقية، لأن هناك علاقة كما قالوا بين السياسة الخارجية في المجال العسكري وبين الدراسات الاستشراقية، لا زالت موجودة! لم تنته هذه اللعبة القذرة، موجودة! مثل فؤاد عجمي اللبناني، كنعان مكية، برنارد لويس Bernard Lewis اليهودي، وهنتنجتون Huntington، هؤلاء يطلبون أشياء ويكتبون دراسات عن الأمة العربية وكيف انتهت الآن وما إلى ذلك، برنارد لويس Bernard Lewis صنَّف الأمة العربية تصنيفاً من أحقر ومن أغبى ما يكون، وهو تصنيف غير علمي، بالمُطلَق غير علمي! لا يُمكِن أن تُصنِّف الأمة بثلاثة تصنيفات، لا يُمكِن أن تُصنِّف ثلاثمائة مليون بثلاثة معايير بسيطة جداً، لا يُمكِن! صعب جداً، فاصطدموا الآن بالواقع المرير في العراق، شعب حي أبي شرس مُقاوِم ومُنتفِض، عجيب! استغربوا لأن هذا غريب، وما يحدث في فلسطين أغرب وأعجب أيضاً، ما الذي يحدث هذا؟ فهم لا يفهمون هذا، الأمة فيها حياة وفيها نبض، لابد أن نعترف بالجانب الأسود وبالجانب الأبيض، لكي نكون أصحاب صدقية، لكن أن نأتي في النهاية ونُبالِغ لكي نُهيل التراب على كل تاريخنا ولكي لا نستثني إلا فترة الراشدية فقط – وليس كلها أيضاً – ثم نقول بعد ذلك هذا كله تاريخ مُظلِم والأمة بحكّامها في أسفل سافلين فهذا ظلم ولا يصمد أمام النقاش العلمي، أليس كذلك؟ ولا أمام الدرس التاريخي، فهذا الذي نقوله، ولكل مقام مقال.
نأتي الآن إلى موضوع الدولة وما إلى ذلك، أنت تحدَّثت الآن عن علاقة المُطلَق بالنسبي، علماً بأن هذه العبارة مُلتبِسة كثيراً، وأنا وعدت أن أُلقي مُحاضَرة – لعلها تكون المُقبِلة أو التي بعدها – عن موضوع تاريخية النص وعلاقة الشارع بالشارح وعلاقة المُطلَق بالنسبي، لأن حقيقةً – ولا تغضب مني – أرى أن علمانيي العرب وماركسيي العرب مثل نصر أبو زيد – صاحبنا نصر أبو زيد – يستخدمون كثيراً هذه المُصطلَحات دون أن يفقهوها، صدِّقني! وبطريقة مُلتبِسة جداً جداً، لو أردنا أن نتحدَّث عن المُطلَق الآن والنسبي سنحتاج على الأقل إلى ساعتين، لكي نتحدَّث حديثاً فلسفياً سنحتاج إلى ساعتين، ولعلنا نفعل إذا تحدَّثنا عن تاريخية النص إن شاء الله تبارك وتعالى، المُطلَق له على الأقل ست إطلاقات فلسفية، والنسبي نفس الشيئ، مُباشَرةً! ست هنا وست هنا، فما معنى أن تتكلَّم وتقول النص الإلهي المُطلَق أو إطلاقية النص؟ ما معنى أن تقول هذا النص مُطلَق والفهم نسبي؟ هل تعني أن هذا النص المُطلَق لا يعكس إلا ما عند الله – تبارك وتعالى – وحده وبالتالي لا يستطيع أن يفهمه ولا أن يتعاطى معه ولا أن يُخاطَب به ولا أن يتلقاه إلا مُنزِله؟ هذا كلام فارغ، للأسف يكاد هؤلاء يقولون هذا، ويُوجَد تناقض بالمُناسَبة قبيح جداً ومشنوع بين زعمهم إطلاقية النص على هذا النحو – (ملحوظة) ذكر أحد الحضور تاريخية النص فقال له الأستاذ الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت – وبين زعمهم تاريخية النص، لا تستطيع أن تستخدم مُطلَقاً المُصطلَحين في سياق واحد، إذا تحدَّث عن التاريخية فإياك أن تتحدَّث عن الإطلاقية، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن التاريخية تُؤكِّد الأصل الأرضي البشري، كون هذا النص مُجرَّد منتوج ثقافي – ابن بيئته وظروفه وزمانه – ويعكس المُستوى المعرفي لمَن اصطنعه وائتفكه – أي محمد عليه الصلاة والسلام، أستغفر الله العظيم – فهذا القول محض الزور والافتراء، وهذا الذي يقوله أبو زيد بالمُناسَبة، أبو زيد نصوصه واضحة، ثم يزعم بعد ذلك أنه مُسلِم، علماً بأنني أُريد أن أُعطيك هنا فتوى شرعية حتى لا تغضب من الناحية هذه، لأن بعض الناس يغضب جداً.
أمس قرأت لمُفكِّر عربي علماني كلمة أعجبتني، قال أنا أتمنى على المُفكِّرين العرب – كل العرب ويقصد زملاءه العلمانيين – إذا تحدَّثوا وعبَّروا عن أفكارهم أن يحتذوا بأساتيذهم الغربيين وأن يبوحوا بدوافعهم، بالمُناسَبة الآن من مُهِمة الناقد العربي أيضاً البحث عن الدوافع، تقرأ النص وتُحاوِل أن تبحث وأن تُنقِّر عن الدافع، لأن اللُغة ملتوية جداً، الخطاب الفكري العربي العلماني مُلتوٍ جداً جداً جداً وخبيث، سُبحان الله! كالأفعى تسلخ جلدها كل حين وكل ساعة، انتبه! لا يا أخي، كُن واضحاً، إذا عندك الجراءة وتعتبر نفسك مُنوِّراً وعندك رسالة تنوير وتُريد أن تُضيء شمعة فلتقل أنا لا أُؤمِن بالإسلام، الإسلام مُجرَّد منتوج وضعي نسبي، الإسلام ينتمي إلى محمد وليس إلى السماء، الإسلام نسبي مُبتدأً ومُنتهىً، وأنا عندي طرح آخر، قل هكذا! لكنه لن يفعل هذا وطبعاً سيخاف على رقبته، هو جبان ويدّعي أنه شهيد الفكر، كذبت! إما أن تكون شهيد فكر وإما أن تكون جباناً، اختر لنفسك، كُن واضحاً جداً، أبو زيد يأتي في التلفزيون Television ويقول يا أخي أنا مُسلِم، أشهد أن لا إله إلا الله وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ، يخدع الناس الرجل هذا ويضحك على نفسه، لماذا؟ لماذا أنت تتشبث بإسلام لا تُؤمِن به؟ أنا حقيقةً أقول لك الآتي، أنا عدنان إبراهيم – عبد الله الفقير – لو كنت أعتقد عقيدة أبي زيد أو عندي قناعة بأفكاره – أن هذا النص من تأليف محمد – أُقسِم بالله لكفرت بالقرآن وبالإسلام وبمحمد والعياذ بالله، وحاشاني – إن شاء الله – وكلا، أخدع نفسي لماذا؟ بالعكس! سأُعطي نفسي انطلاقة عالم آخر ومن ثم ينتهي كل شيئ، لكن أنا ليس عندي هذه العقيدة أبداً، وعندي الكثير من الأدلة بحمد الله، لن أقول الآلاف، لكن القرآن فيه آلاف الأدلة على أنه لا يُمكِن إلا أن يكون من عند الله، ويا ليت أبا زيد قرأ مثلما قرأ وحيد الدين خان، وأنت رأيت كيف كان تفكير هذا الرجل، فهو راكز وليس استعراضياً، على عكس مَن يتحدَّثون عن جادامير Gadamer وتشومسكي Chomsky ويذكرون كلمات ومُصطلَحات وهم يا أخي قرأوا في كل علم صفحتين، شيئ يُجنِّن، صدِّقني! قرأوا في كل علم صفحتين أو كتابين، لو قرأ مثل وحيد الدين خان – هذا الفيلسوف وهذا العالم الهندي الكبير – لاختلف وضعه بالكامل بإزاء النص القرآني، الجانب العلمي فقط في القرآن يُؤكِّد أن هذا القرآن لا يُمكِن أن يكون منتوجاً بشرياً، فعلاً خارق للزمان، عابر – Trans – للزمان، لا ثقافة محمد ولا ثقافة البشرية في ذلك الوقت تسمح بإنتاج مثل الخطاب القرآني، العلم يقول هذا!
وحيد الدين خان قرأ برتراند راسل Bertrand Russell بالمُناسَبة، وأتحدى إن كان قرأه أي واحد من العرب للأسف! هو قرأ برتراند راسل Bertrand Russell كاملاً، عنده ثلاثمائة كتاب، ربما طُبِعوا في أربعين مُجلَّد، في التربية، في الرياضيات، في التاريخ، في الفلسفة طبعاً بالذات، وفي المنطق، شيئ عجيب! قرأه وحيد الدين خان كاملاً، علماً بأن وحيد الدين خان مِن أحسن مَن يُدافِع عن الإسلام وعقيدة الإسلام بطريقته العلمية الفلسفية المُتواضِعة، غير استعراضية لكنها مُقنِعة جداً، وعندنا في غزة – بفضل الله – جماعات كثيرة من الماركسيين الذين اهتدوا بفضل وحيد الدين خان، أنا أعرف منهم أساتذة لي وصاروا يُصلون، كانوا مُنصِفين! لكن هذا الاستعراض الخاص بالجماعة الآخرين مرفوض، هذا موضوع ثانٍ.
فما نُريد أن نقوله لا يجوز إطلاق التاريخية مع المُطلَق في نفس الوقت، لا يُمكِن! التاريخ لا يكون مُطلَقاً، أليس كذلك؟ التاريخ نسبي، التاريخي نسبي، لا يكون مُطلَقاً، وهم يتحدَّثون عن نص تاريخي نسبي، ابن البيئة والظروف ويعكس المُستوى المعرفي للرسول ولعصره وطبقته، أليس كذلك؟ طبعاً هذا الكلام لن نُتعِب أنفسنا في الحديث عنه، دعونا نأخذ المُصطلَح الثاني، إطلاقية النص القرآنية! ماذا نُريد بها نحن كإسلاميين أو كمُسلِمين؟ وهل نُؤمِن بأن النص القرآني مُطلَق؟ نعم، أنا أُؤمِن بأن النص القرآني يتمتع بالإطلاقية، لكن بأي معنى للإطلاقية؟ ليس بالمعنى الذي نفيته في مُبتدأ النقاش، بالمعنى الذي لا يستطيع معه أن يُدرِكه إلا مُنزِله تبارك وتعالى، لا! لأن هذا القرآن إنما أُنزِل لهدايتنا، في أول سورة البقرة: الم ۩ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۩، ورسالة الدين الأساسية هي الهداية، وسأفتح هنا مُزدوَجين أو قوسين كما يُقال لكي أُناقِش الفكرة التي طرحتها، أنت خرجت عن موضوع النقاش لكن دعنا نُناقِشها الآن بسرعة:
(أنت قلت وحيد الدين خان قال إن العلم يتناقض مع الدين أو يختلف معه، أنا لا أعتقد أنه قال هذا أبداً، بالعكس! هو عنده كتاب ثانٍ اسمه العلم على خُطى الدين، توصيف العلاقة بين العلم والدين أو بين العقل حتى والدين على أنها علاقة تضاد أو تناقض غير صحيح فلسفياً وعلمياً، وأنا سأُناقِش هذا الشيئ الآن، غير صحيح! أنا أُقِر – نعم – بأن منهج العلم غير منهج الدين، هذا صحيح، انتبه! وبالتالي موضوع العلم غير موضوع الدين، في علم المنهجية أو الميتودولوجيا Methodology الموضوع يستدعي منهجه والمنهج يُحدِّد موضوعه، أليس كذلك؟ هذه مقولة معروفة في الميتودولوجيا Methodology، فالآن ما هو منهج العلم؟ وبالتالي ما هو موضوع العلم؟ أي ما هو نطاق العلم؟ ما هو الميدان – Sphere – الذي يتحرَّك فيه العلم؟ منهج العلم هو التجريب، الاتجاه الــ Empirisch أو الإمبريقي كما يقول العرب، الاتجاه التجريبي! شيئ لابد أن يُحَس بمعنى ما، التجريد الكامل أو الماوراء الكامل العلم لا علاقة له به، لا إثباتاً ولا نفياً، يقول هذا غير داخل في نطاقي، أليس كذلك؟ ليس ضمن موضوعاتي، وبالتالي العلم في النهاية اسمه العلم الطبيعي، العلم الطبيعي التجريبي منطقه التكميم، كل ظاهرة إذا لم تخضع للتكميم لا تُعتبَر ظاهرة علمية، انتبه! وأنا لا أتكلَّم الآن عن علمي وعلمية – Scientific – بالمعنى الأعم، علم الاجتماع يُسمى علماً، علم التاريخ يُسمى علماً، ثم يأتي إليك مُؤرِّخ ويقول أُريد أن أُحلِّل لك هذه الظاهرة تحليلاً علمياً، ما معنى أنه سيُحلِّلها علمياً؟ هل يعني أنه سيُحلِّلها إمبريقياً، لا! وإنما بحسب منهج التاريخ، وطبعاً التاريخ فيه مناهج كثيرة جداً جداً، ومن عجيب أمره أن فيه المنهج التوسمي وفيه المنهج الاستردادي، قضية طويلة هذه في المناهج! حين يقول لك رجل اجتماعي – أي سوسيولوجي – أنا أُريد أن أُحلِّل هذه الظاهرة العلمية يقصد ماذا؟ بمنهج السوسيولوجيا Sociology، ليس بمنهج الفيزياء أو الكيمياء، أليس كذلك؟ أو الفلك والرياضيات، لا! منهج مُختلِف، ويُسمى هكذا! فهذا علم بالمعنى الأعم، لذا يُوجَد خطأً، حين نقول منهج العلم نجد خلطاً بين الأعم والأخص في مناهج العلم ونجد خلطاً في مسائل أُخرى، فنحن نتكلَّم عن المنهج العلمي بالمعنى الأخص، المنهج العلمي بمعنى منهج العلوم الطبيعية، صحيح! هذا منهجه يختلف عن المنهج الديني، لماذا؟ المنهج الديني أساساً يقوم على ماذا إذن؟ على الوحي، إذا قلت لي الدين أو الرسالة أو القرآن فهذا يعني أنه يقوم على الوحي، هناك قوة مُفارِقة للطبيعة وللإنسان وغير مُحايثة، هو الله – تبارك وتعالى – الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، وهذا الشيئ الذي من ضمنه الإنسان نفسه وجوانية الإنسان وظروف الإنسان ومُستقبَله، كل ما يتعلَّق بالإنسان الله أحاط به علماً، وهذا جُزء من معنى الإطلاقية، جُزء المُطلَق! بعد ذلك أنزل هذه الرسالة، المُحيط المُطلَق أنزل هذه الرسالة، أنزل هذه الكلمات! العلم لا يستطيع أن يتكلَّم هنا أصلاً، فكرة الوحي بعيدة عن نطاق العلم، أليس كذلك؟ لأن العلم أصلاً – كما قلنا – لا يُمكِن أن يتعاطى مع ظاهرة لا تقبل التكميم، ومن هنا بالمُناسَبة منهج العلم الطبيعي لا يقبل أن الاجتماع علم، يقولون لا يا أخي، هذا كلام فارغ، كيف تقول هذا عن علم الاجتماع؟ وكذلك مع الإنسانيات، لا يقبل أن الأنثروبولوجيا Anthropology – مثلاً – علم بهذا المعنى، غير صحيح! أو التاريخ بالذات، التاريخ! لا يعترف أي عالم طبيعي بأن التاريخ علم، يقول لك هل التاريخ علم؟ كيف يكون علماً؟ مُستحيل! ليس علماً، لأنه غير قابل للتكميم، أليس كذلك؟ حدوس وظنون ونظريات كلها ونماذج تفسير غير قابلة للتكميم، فالعلم هنا بالمعنى الأخص، إذن اختلاف المنهج لا يعني التناقض، لكن يعني التخصص، على رأي ماركس Marx ومَن مثله تقسيم عمل، أليس كذلك؟ كيف هو تقسيم عمل؟ الدين له ساحة يتحرَّك فيها بمنهج مُختلِف تماماً، لا دخل للبشر فيه، فمحمد حتى لم يبتدع هذا المنهج الوحووي ولا يعرفه أيضاً، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ۩، قال لَتُلَقَّى ۩، أليس كذلك؟ هذا مُجرَّد تلقٍ، هو ليس له أي فاعلية فيه، عكس كلام أبي زيد طبعاً! قال يعكس ثقافته ويعكس كذا وكذا من أمثال العرب وأساطير العرب وخُرافاتهم وما إلى ذلك، غير صحيح بالمرة! قال لَتُلَقَّى ۩، مُجرَّد تلقٍ، وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ – الله ماذا قال له؟ – لَمِنَ الْغَافِلِينَ ۩، لم يقل له لمن المُستعِدين أو لمن المُتفاعِلين أو لمن المُتهيئين، كان في غافلة كاملة، لم يكن كذلك أبداً، وبالعكس! النبي اتهم نفسه أصلاً بأنه مُس أو ربما يكون تعرض لجن، قال إني خشيت على نفسي يا خديجة، هذا في البخاري، في أول صحيح البخاري! ظن أن هذا ربما يكون جناً أو عفريتاً، لأن لم يكن عنده أي استعداد، لم يتوقَّع أن يأتي إليه الوحي، فهو ليس له علاقة به أبداً، مُجرَّد تلقٍ، فما أُريد أن أقوله هذا نطاق وهذا نطاق، وهذا لا يعني التناقض، بالعكس! يعني التخصص والتمايز، هل هذا واضح؟)
الآن نُريد أن نرى ما حظ العلم في النص الديني، هل النص الديني – مثلاً – يشحب المنهج العلمي، يحظره، ويمنعه كما فعلت الكنيسة مثلاً؟ بالعكس! عندنا القرآن الكريم، والقرآن الكريم هو الذي أسَّس للمنهج التجريبي، أليس كذلك؟ عشرات الآيات تدعو إلى السير في الأرض وإلى الضرب في الأرض وتحصيل العبرة والمعرفة، إذن هذا يعني أن هذه العملية ليست تأملية بالمُناسَبة، ليست مثل طريقة أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato، ليس وأنت جالس تبدأ تبتدع أفكاراً وتحاليل وما إلى ذلك أبداً، هذا يعني أنه منهج تجريبي، منهج الضرب والسير في الأرض، منهج النظر في الوجود وفي الكون، ليس منهج التفكير بالعقل في الكون، لا! النظر فيه مُباشَرةً، إقامة علاقة استنطاق ومُشافَهة مع الظاهرة الطبيعية، وأنا ذكرت هذا من قبل، ربما سمعته مني عدة مرات، أنا عندي مُحاضَرة في ثمان ساعات عن تأسيس القرآن للعلم التجريبي، وعندها بُعد فلسفي! القرآن أسَّس للعلم التجريبي بشكل حقيقي، ودُعِّم هذا التأسيس أيضاً في نظريات الأصوليين وخاصة في مسالك العلة بشكل غير عادي، وذكرت في مُحاضَرتي قديماً – قبل ثمان سنوات – أن جون ستيوارت ميل John Stuart Mill في كتابه نظام المنطق A System of Logic – كتاب مشهور جداً جداً، يُعتبَر ثورة في علم المنطق، وهذا إنجليزي – ذكر أربعة طرق علمية ميتودولوجية، والأربعة الطرق كلها برُمتها مأخوذة من كُتب أصوليي المُسلِمين، كما هي والله! بعد ذلك أنت تستغرب لأن موضوع كتاب في المنطق، هو في المنطق التجريبي طبعاً! ليس له علاقة بالدين ولا بالأيديولوجيات، أتى بعد صفحة واحدة وسب النبي، أعني جون ستيوارت ميل John Stuart Mill! لماذا سب النبي؟ لماذا؟ لأنه أحس بالوضاعة وبالنقص، وهو يعلم أنه استفاد هذا من تراث المُسلِمين، نقله واختلسه بالكامل كما هو من تراث المُسلِمين، فمن باب الدفاع عن النفس – ولم يتهمه أي أحد، لكن كاد المُريب أن يقول خُذوني – ذهب وسب هذا الدين وسب مُؤسِّس هذا الدين، لكي يُبرئ نفسه من تُهمة السرقة، لأنه سرّاق كبير، والغربيون اكتشفوا هذه السرقة، قالوا لا، هذا موجود! مثلما فعل ديكارت Descartes قبله، أليس كذلك؟ سرقة كاملة من الغزّالي، وهكذا! هم يُمارِسون هذا الأسلوب الحقير للأسف ثم يدّعون بعد ذلك الإضافة، نحن عندنا إضافات كثيرة خاصة بنا – الحمد لله – التي تعايش عليها غيرنا ولا يزالون، فما أُريد أن أقوله لا تُوجَد علاقة تناقض أو تضاد، تُوجَد علاقة تمايز وتخصص.
أبو حامد الغزّالي في القسطاس المُستقيم – وذكرت هذا عدة مرات أيضاً – بعبقرية فذة استطاع أن يُوصِّف العلاقة بين العقل والدين، ونفس الشيئ! ما يُقال في العقل يُقال أيضاً في العلم، لكن يُوجَد اختلاف منهجي أيضاً، المنهج العقلي – Rational – يتعلَّق بموضوع ثانٍ، ماذا قال أبو حامد الغزّالي؟ قال هناك علاقة يُمكِن أن تُوصَف بأنها علاقة تصادم أو تضاد أو تناقض – علماً بأن هذا ليس بالمعنى الدقيق للكلمات هذه في المنطق – وهناك علاقة تختلف، علاقة تجاوز! ماذا يقول أبو حامد بلُغته؟ ما هو ضد العقل وما هو فوق العقل، انظر إلى هذه الدقة العلمية والفلسفية، ومن هنا استحق عند العقاد وغيره أن يُعتبَر أعظم مُفكِّر في تاريخ الشرق والغرب، أعني أبا حامد الغزّالي، حين تقرأ بعمق تعرف مَن هو الغزّالي، عقل غير عادي! قال ما هو ضد العقل وما هو فوق العقل، بمعنى الآن لو جاء الدين وأخبرني – مثلاً – بظاهرة العلم أو العقل – العقل بمبادئه المعروفة الخمسة أو العلم بمنهجيته الموضوعية التجريبية – وقال هذا مُستحيل – هذا الشيئ المُستحيل – سيكون الدين جاءني بشيئ ضد العلم أو ضد العقل، وهذا سيتسبَّب في وجود حالة إرباك شديدة جداً جداً عندنا من ناحية منهجية، نتبع العلم أو نتبع الدين؟ أليس كذلك؟ وهذا الخيار ليس بالحميد، خيار مُدمِّر للحضارة، أليس كذلك؟ وللفاعلية الإنسانية، لكن الأمر سيختلف لو جاء الدين وأخبرني بشيئ لا يستطيع العلم تناوله لأنه يعترف بأنه ليس ضمن نطاقه، أي قال لي يُوجَد عالم اسمه عالم الجن، عالم الملائكة، عالم الميزان، عالم العرش، وعالم كذا وكذا، فضلاً عن وجود الجنة والنار، العلم سوف يقف مبهوتاً هكذا، سوف يقول ما هذا؟ هل هذه ظواهر طبيعية تخضع للتجريب؟ سوف نقول له لا، هذه ظواهر ماورائية، ماوراء الطبيعة أصلاً! سوف يقول أنا لا دخل لي بهذا الموضوع، وليس من مباحثي، وهل يُوجَد ماوراء أو لا يُوجَد؟ لا أستطيع أن كعلم أن أُثبِت هذا، انتبه! والعلم هنا أنا أقبله وهو مُتواضِع ومُمتاز، لأنه عرف حده، وقلت هذا في الدرس السابق! هذا العلم مُمتاز، والتوصيف هذا علمي، ولا يعني أن عكسه جاهل، أي أنه توصيف جاهل، ليس معناه أن الطرح الديني طرح جاهل، لكن التوصيف غير علمي، كيف هو غير علمي؟ غير علمي بالمعنى الأخص، غير إمبريقي، وغير تجريبي، أليس كذلك؟ مضبوط.
هل ظاهرة الجن أو عقيدة الجن ظاهرة علمية بالمعنى التجريبي؟ لا طبعاً، لا يستطيع واحد أن يُصوِّرهم وما إلى ذلك، مُستحيل! إذن هي غير علمية بهذا المعنى، فهل معنى أنها غير علمية أنها ظاهرة خُرافية ميثولوجية أسطورية وجاهلة؟ لا، العلم لم يقل هذا، لكن العلمويون هم الذين قالوا هذا، أليس كذلك؟ وأنا قلت لك أنا مع العلمي ولست مع العلموي، ويُوجَد فرق بين علمي وبين علموي، تكون علمياً حين تعتمد المنهج التجريبي، (ملحوظة) ذكر أحد الحضور المنهج العلمي فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، وبالعكس! نحن تقدَّمنا، فجَّرنا الذرة، غُصنا في أعماق البحار، وخرجنا وجاوزنا المجموعة الشمسية وما إلى ذلك، شيئ جيد! بالعلم كله هذا، وأضأنا الحياة والدنيا – وهذا مُمتاز – بالمُخترَعات والتقتينات المُختلِفة، شيئ جميل! هذا بالعلم التجريبي، أنا أحترم هذا العلم بلا شك وأنا مأمور به أصلاً، والدين يُفسِح له مجالاً واسعاً ولاحباً، لكن أن تقول المنهج العلمي وحده وفقط ثم تضع نُقطة فهذا يعني أنك هنا أصبحت أيديولوجياً، العلم نفسه لا يزعم لنفسه ذلك، العلم يقول لك أنا أتحرَّك فيما أُحسِن، أنا منهج وأداة، أنت الآن لا تستطيع بالسكينة التي تقطع الزُبد أن تنشر الحديد، هل تستطيع هذا؟ لا تستطيع، العيب ليس في السكين، العيب فيك أنت! العيب فيك أنت لأنك تُريد من هذه الآلة أن تصلح لما لا تصلح له، أليس كذلك؟ هذه الطريقة – Method – لا تصلح، هذه الآلة – Instrument – لا تصلح، هذه تقطع الزُبد فقط والخُبز، إذا أردت أن تقطع الحديد فعليك أن تُحضِر المنشار، أليس كذلك؟ العلم قال لك أنا أقطع في الظاهرة الطبيعية، أستطيع! لكن ماوراء الطبيعة أصلاً أنا لا أعرفه، هل هو موجود أو غير موجود؟ ولا يعنيني! وحين أقول لا يعنيني أو لا أستطيع هذا لا يعني أنني أُنكِره أو أتهمه بالخُرافية والجهل، لا! لكن هو فقط لا يعنيني وليس في نطاقي، فأنا أحترم حدودي، هذا علمي وأنا أحترم هذا العلمي، لكن حين يأتي إلىّ واحد علموي ويقول لي لا، العلم وفقط، وما لم يُثبِت العلم هذا بالأساليب التجريبية فهو خرافة، سأقول له أنت خُرافي، وأنت إنسان قاصر، وجاء العلم يتحدى بعد ذلك، علماً بأن عندي مُحاضَرة في مسجد الهداية – أرجو أن تعود إليها إن شاء الله – تحدَّثت فيها عن مصير العلم الطبيعي في ثلاث مجالات: في المادة، في الكون، وفي جراحة الأعصاب، المُخ والدماغ! لا أعرف حضرتها أو لم تحضرها، المُهِم أن تستمع إليها إن شاء الله، أعتقد فيها شيئ يُطوِّر هذ المعنى بشكل مُعمَّق جداً.
العلم نفسه جاء بأثرة لكي يُزعزِع القناعات الصُلبة للعلماء وليس للعلمويين أيضاً، بمعنى ماذا إذن؟ المادة نفسها بدأت تسيخ وبدأت تتفلت من أيدي العلماء، الآن لو أتيت وسألت أي عالم ما مفهوم المادة؟ سيقول لك هذا أيضاً غير داخل في نطاق العلم، ما علاقتي بهذا؟ ليس لي علاقة به، ستقول له كيف؟ سيقول لك أنا لست فيلسوفاً تأملياً، أنا عالم، أدرس وفقط! والفيلسوف يبدأ من حيث ينتهي العالم، انتبه! الفيلسوف يبدأ من حيث ينتهي العالم، كيف؟ أنا دائماً أضرب مثالاً مشهوراً! هذا الكوب – مثلاً – لو أراد العالم – العالم الفيزيائي – أن يتناوله كيف سيتناوله؟ من حيث الحجم، أليس كذلك؟ أي من حيث السعة، من حيث الكُتلة Mass، الوزن له علاقة بالجاذبية، ليس له معنى خارج نطاق الجاذبية، أعني الوزن، فهو مفهوم نسبي تضايفي أو إضافي، أليس كذلك؟ لكن مفهوم الكُتلة المفروض أن يكون مفهوماً غير نسبي، لكن أينشتاين Einstein جاء وقال لا، حتى مفهوم الكُتلة نسبي أيضاً، عجيب! نيوتن Newton قال لا، مفهوم الكُتلة مُطلَق، أينشتاين Einstein قال لا، نسبي، كيف هو نسبي؟ قال بحسب وضع الجسم، بحسب السرعة، حين يُسرِع يختلف الأمر والكُتلة تزيد، هل الكُتلة تزيد؟ نعم الكُتلة تزيد، ليس الوزن وإنما الكُتلة، وهذا شيئ غريب! حتى الكُتلة أصبحت مفهوماً نسبياً، بدأت المادة تتفلت منا، أليس كذلك؟ هذا جيد لكن ليس لنا علاقة به.
كذلك الحال مع اللون، ماذا عن اللون؟ يقول لك اللون صفة ثانوية، هذا رأي جون لوك John Locke، علماً بأن العلماء لا يستخدمون هذه الألفاظ، لا يُحِبونها! حين تقول ثانوي وما إلى ذلك يقولون لك هذه أفكار فلسفية، لكن نحن نُعبِّر عنها بأنه صفة ثانوية، عند جون لوك John Locke! كيف هي صفة ثانوية؟ لا يُوجَد شيئ في الواقع اسمه لون، لا يُوجَد! أليس كذلك؟ ولذلك أنت ترى هذا الشيئ بطريقة مُعيَّنة وتسميه لوناً وغيرك يراه بطريقة ثانية، مثل الحصان والهر وما إلى ذلك، مُختلِفة تماماً! لأن العلاقة أيضاً علاقة تفاعلية بين شبكيتك والأقماع والعصي التي عندك وبين طبيعة المادة هذه والشعاع الصادر منها والتموج، شيئ غريب جداً!
إذن هذا كلام مَن؟ العلماء، علماً بأنه أكثر فلسفةً، غير كلام العلماء قديماً، كان واضحاً أكثر من هذا وكان واثقاً، بدأت الآن تدخل الفلسفة، الفيلسوف لا تعنيه هذه المسائل كلها كثيراً، إلا فيلسوف العلم، الذي بدأ أيضاً يتواضع ويسحب الثقة من قدرة الفلسفة التأملية على الوصول إلى أعماق الشيئ، وبالذات إلى الشيئ فيما هو هو، أي إلى الشيئ في ذاته بلُغة كانط Kant، كانط Kant لا يُؤمِن بهذا الشيئ، لكن لا علينا من هذا، فالفيلسوف يقول لك لا، أنا أصلاً سأبدأ من بعد كل هذا الكلام لأسأل هل هذا الكوب أصلاً موجود أو غير موجود؟ (ملحوظة) استفسر أحد الحضور عن هذه النُقطة، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم طبعاً يُمكِن أن يكون دماغك هو الذي خلقه!
جورج بيركلي George Berkeley فيلسوف مثالي إنجليزي، عاش قبل مائتين وخمسين سنة، هذا صاحب نظرية وهو فيلسوف، يقول لا يُوجَد شيئ في الوجود، المُخ هو الذي يخلق الكون، وإذا ديكارت Descartes قال أنا أُفكِّر فأنا موجود فهذا يقول أنا أرى الشيئ فهو موجود، حين تراه يُوجَد، كيف تراه؟ دماغك هو السبب، فلسفة غريبة عجيبة، لن نقول غبية لكن هي عجيبة وغريبة، وألَّف فيها مُؤلَّفات الرجل وظل يُقارِع فيها، وهذا الرجل كان قسيساً! رجل ثانٍ يقول لا، الأشياء موجودة، هي كما هي، وأنت تتلقاها بمُطاَبقة مُطلَقة، هذا فيلسوف مادي خشن كما يُسمونه، جلف! مادي محض، شخص ثالث يقول لا، المادة لها وجود، لكن ما يتعلَّق بالحجم واللون والشكل وما إلى ذلك أنت تتلقاه مُحرَّفاً بحسب تركيبتك العضوية، فسلجة الدماغ والأعضاء وما إلى ذلك، هذه قصة طويلة! لكن العالم ليس له علاقة بكل هذه المسائل، هل رأيت كيف هذا؟ فالفلسفة تبدأ من حيث ينتهي العلم.
ما أُريد أن أقوله إذن إن العلاقة بين الدين والعلم ليست علاقة تناقض ولا تضاد ولا تصادم أبداً أبداً، علاقة تمايز واختصاص، هناك ما هو ضد العلم، وهناك ما هو العقل، نحن نتحدى – بحمد الله تبارك وتعالى – أن يكون في الدين – أي في النص الديني، انتبه فهذا له علاقة بأسئلتك – ما يتصادم مع العقل المحض أو مع العلم الصحيح، غير موجود هذا، غير موجود! أما إذا تكلَّمت عن العلم والعلمي بالمعنى الأعم – علم السياسة، علم القانون، علم التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، علم المُفاوَضات، وعلم كذا وكذا – فلا، بالمُناسَبة – كما قلنا – إعطاء هذه المجالات لفظ العلمي يكون مع تجوز وتسامح كبير جداً جداً، وهي في تطور ونمو مُستمِر، ولا يحق لنا – نحن كمُسلِمين – حقيقةً أن نأتي نُحكِّم هذه الأفكار البشرية المُتطوِّرة باستمرار – وبعضها ناشئ من مائة سنة، أليس كذلك؟ مثل علم النفس، بالكاد عمره مائة وعشر سنوات، أي علم النفس – في النص الديني الذي نعتقد بإلهية مصدره لكي نحكم ونقول هذا علمي وهذا غير علمي، غير صحيح الكلام هذا، بالعكس! أنت تُحكِّم أفكار بشرية مُتضارِبة أصلاً والنظريات كلها مُتصادِمة، فلماذا تجعلها مرجعية مُطلَقة وأخيرة في التحكيم؟ لا يُمكِن أبداً، يجب أن تحتفظ لها بتواضعها النسبي، فهذه علاقة العلم بالدين وما إلى ذلك، وقد فرغنا منها.
نأتي إلى موضوع الدولة وسؤالك الرئيس، لكن أهم شيئ في سؤالك موضوع المُطلَق والنسبي، المسألة أسهل مما طوَّلت علىّ، وإذا كنت الآن لا أُجيبك فقل هذا غير مُقنِع وليس جواباً لي، أنا قلت اليوم – في درس اليوم – الإسلام أتى بمبادئ دستورية، حديثنا الآن في الدولة وليس في كل شيئ، الإسلام أتى بمبادئ دستورية، وهذه المبادئ دائماً أتت في النص بصيغة عمومية إجمالية، بلُغة الفقهاء والأصوليين إجمالية، القاعدة في هذه المسائل كالآتي بحسب ما عبَّر الشيخ العلّامة شلتوت – رحمة الله عليه – في الإسلام عقيدة وشريعة، قال دائماً القرآن والسُنة يُفصِّلان فيما من شأنه ألا يتغيَّر، ويُجمِلان فيما من شأنه التغير، أي شيئ من شأنه أن يتغيَّر ويتبدَّل تجد – سُبحان الله – النص الديني يتناوله بالإجمال، وهذا شيئ غريب! دعنا نأخذ أول مبدأ دستوري، وهو أهم هذه المبادئ الدستورية الخمسة، الشورى! الإسلام تناولها بإجمال شديد جداً، تناول الشورى بإجمال شديد! لكن هذا الإجمال مؤداه في النهاية معنى واحد، أي يتأدى إلى معنى واحد، ما هو؟ بحسب ما أوضحنا في المرة السابقة هو وجوب الشورى، الشورى واجبة، يجب أن يكون هناك شورى فيما يختص بقضايا الأمة وبمسائل الأمة، هذا هو فقط! لكن أين نطاق الشورى، أساليب الشورى، ميكانيزماتها أو آلياتها، أهل الشورى، وصفات هؤلاء – فضلاً عن أشياء كثيرة – أيضاً؟ النص لم يُفصِّل فيها، متروكة لماذا هذه؟ متروكة لظروف البشر وأحوالهم وتطورهم الثقافي والأدائي والمُجتمَعي والبنيوي بشكل عام، كل البُنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، متروك لها! وهنا عبقرية النص، هنا تجدها، لا تستطيع أن تقول الآن هذه القيمة أو المبدأ الدستوري – الذي هو مبدأ الشورى – أنا لا أُؤمِن به ولا أُريد أن أخضع له لأنه مُطلَق ولا أستطيع أن أتعامل معه، هو ليس مُطلَقاً بالمعنى الفلسفي، كما قلت عندنا ست إطلاقات، هناك ست إطلاقات للمُطلَق! لكن هو مُطلَق بالمعنى اللُغوي وليس بالمعنى الفلسفي، بمعنى أنه مُجمَل، ولو قلنا إنه مُجمَل باللفظ الأصولي لكان هذا أكثر دقة.
بالمُناسَبة عندك فلسفة كاملة – وذكرت هذا عدة مرات – وهي الفلسفة الوضعية المنطقية، وأنا أُؤمِن بهذا الاتجاه فقط فيها، أي بنُقطة واحدة منها! أُؤمِن فعلاً كما أكَّد كل زعمائها – سواء منهم كارناب Carnap، سواء منهم لودفيغ فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein، فهو أيضاً محسوب عليها، أو وايتهيد Whitehead، أو برتراند راسل Bertrand Russell – أن أكثر مسائل الفلسفة والاشتباكات الفكرية بين الفلاسفة منشأها الاصطلاح، عدم الضبط للمُصطلَح! فحين يأتي إلىّ رجل علماني أو ماركسي أو أي رجل آخر – حتى إسلامي – ويستخدم مُصطلَح المُطلَق وهو لم يُحدِّد لي ما هو المُطلَق يكون مُخطئاً، أليس كذلك؟ أفلاطون Plato كان يقول بالمُناسَبة الآتي، أفلاطون Plato عنده مبدأ وتفكير ذكي، كان يقول في أي نزاع إذا حُدِّدت مداليل أو مدلولات الألفاظ ارتفع نصف النزاع، بنسبة خمسين في المائة يُمكِن أن يُحَل المُشكِل، لا تقل لي هذا مُطلَق والنص مُطلَق والفهم نسبي وأنت لا تفهم أو لا تُحاوِل أن تُفهِمني ماذا تُريد بالمُطلَق، فهل الآن الشورى يا إخواني – بالله عليكم – مفهوم مُطلَق وبمعنى لا يستطيع واحد أن يتعاطى معه ولا يستطيع واحد أن يفهمه؟ مستحيل، بالعكس! هو مفهوم مُجمَل، مبدأ دستوري إجمالي، أستطيع أن أتعاطى معه، بالعكس! هو مبدأ سمح وكريم، لأنه يُعطيني هامشاً كبيراً لحرية الحركة ضمن أوليات أو آليات مُعيَّنة أُطوِّرها بحسب تطور ثقافتي وبُناي المُجتمَعية والاقتصادية والسياسية، إلى آخره! وهذه العبقرية في الموضوع هذا.
بمعنى – مثلاً – أن الخلفاء الراشدين طوَّروا آليات مُعيَّنة لمأسسة هذا المفهوم، وهذه لا تُلزِمني، أليس كذلك؟ أنا أستطيع أن أفعل هذا الآن على ضوء تجربتي الراشدية وعلى ضوء تجارب الآخرين التي لا أحقرها ولا أسفهها دائماً هكذا أيضاً بالمُطلَق وبالإجمال، بالعكس! أنتقي منها، والحكمة ضالة المُؤمِن، آخذ منها ما يروق لي وما يتلاءم مع مصالح الأمة أو مصالح الآخر، نأخذ من ذلك ونُطوِّر ونتوسَّع في هذه الآليات أو هذه الأوليات بلا شك، لكن في المُحصِّلة غاية الأمر أن كل ذلكم لم يخرج عن ماذا؟ عن تدعيم وتكريس قيمة قرآنية دستورية، وهي قيمة الشورى، أليس كذلك؟
نأتي إلى المُساواة مثلاً، نأخذ مبدأ دستوري آخر، المُساواة! طبعاً النصوص في الكتاب والسُنة عن المُساواة أكثر من أن تُذكَر، وبالمُناسَبة لم تُطرَح في النص الديني الإسلامي – وهذا من عبقرية أيضاً النص وعطائه المُمتَد الخالد – بصيغة قانونية، إلى الآن الفكر الغربي يطرح المُساواة ضمن الصيغة القانونية، أليس كذلك؟ الإسلام لم يفعل هذا، جعلها أعلى من ذلك وأقدس من ذلك، وذلك حين قال ماذا؟ قال أنتم لآدم وآدم من تراب، وإنما الناس اثنان، مُؤمِن تقي أو فاجر شقي، إن الله رفع عنكم عُبية الجاهلية، نصوص كثيرة! يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ۩، إذن أنتم إخوة وإن تباعد بكم نسب الأب الأول والأم الأولى، لكن أنتم إخوة! ولذلك الإمام عليّ يُوصي عامله ويقول له وألن لهم جانبك، وطيء لهم كنفك، فإنما الناس اثنان، أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق، الله أكبر! الرسول في حديث أبي داود في السُنن في كل ليلة – حين يقوم في الليل – يقول اللهم إني أشهد أن الخلق – أو قال أن العباد – إخوة، لم يقل أشهد أن المُسلِمين، قال أشهد أن العباد، كل الناس إخوة، هناك أُخوة بشرية، أليس كذلك؟ نحن أبناء آدم وحواء، لم يُخلَق أحدنا من ذهب والآخر من خشب أبداً أو واحد من معدن سماوي وواحد من معدن سُفلي أرضي أبداً، فالمُساواة في الطرح الإسلامي لم تأخذ أو لم تقف عند حدود الصيغة القانونية فقط، وإنما أخذت صيغة أقدس وأكرم بكثير من القانونية، وبالمُناسَبة هذا حتى في العدالة Justice، خُذ العدالة أيضاً، انظر أنت واقرأ النص القرآني، كلمة حتى Justice في الفكر الغربي تُساوي ماذا؟ تُعادِل ماذا؟ تُساوي القضاء، تُساوي العدالة، Justice معناها العدالة، ومعناها القضاء أيضاً! أليس كذلك؟ وهذا قصور، قصور مشين في كل الفكر الغربي، وبالمُناسَبة لو قرأت الفكر الدستوري – سواء عند العرب أو عند الأجانب – لن تجد مجالاً تتحرَّك فيه العدالة إلا في هذا المجال القضائي، فقط! هنا مجالها، وإذا ذُكِرت في أي مجال آخر – وأنا أستعير لُغة القانونيين – فتُذكَر على أنها مُوجِّه في سياسة الحُكم، هكذا يُسمونها المُوجِّهات، فقط! ليست مبادئ دستورية، لكن عندنا في الإسلام تُوجَد عدالة في القضاء، أليس كذلك؟ تُوجَد عدالة حتى في المُستوى الاجتماعي، تُوجَد عدالة في تعدد الزوجات، تُوجَد عدالة في مُعامَلة الأولاد، أليس كذلك؟ تعدل بينهم! عدالة مع الخصوم في كل شيئ، وعدالة في القول – وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ۩ – وليس في الفعل والتقاضي فقط، شيئ عجيب! فأنت ترى مُستويات العدالة الخاصة بنا في الطرح الإسلامي، عجيب! لم تترك ميداناً إلا فعلت فيه، وليس فقط في النطاق القضائي، عظمة! عظمة المبادئ الدستورية هنا، سابقة لكل هذه الأشياء، أسبق بكثير وأعمق وأشمل، فما أُريد أن أقوله أيضاً إنها كانت سابقة في كل هذا، سواء العدالة، سواء المُساواة، سواء الشورى، وسواء المُراقَبة على الحكّام، حق الأمة أن تُراقِب حكّامها! وقد نزل هذا التشريع في وقت كانت الأمم تعبد حكّامها، أليس كذلك؟ هذا مضبوط أم لا؟ وإلى الآن يُوجَد شيئ قريب من ذلك عند بعض الشعوب الآسيوية، تعبد وتُقدِّس! تراهم أبناء الشمس وأنسال الآلهة العُليا، الإسلام قال لا، هذا غير صحيح بالمرة! سيدنا عمر قال لا يبلغ حقُ ذي حقٍ أن يُطاع في معصية الله، أليس كذلك؟ لا طاعة لمخلوق – أياً كان – في معصية الله، أليس كذلك؟ أبو بكر أيضاً ماذا قال؟ قال إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني.
فما أُريد أن أقوله الآن باختصار – هذا جواب السؤال – هذه هي المبادئ التي لن أُسميها حتى لا ندخل في عماء، أليس كذلك؟ لا نُريد أن ندخل في عماء، يُوجَد لبس شديد في المُصطلَح، هذه الألفاظ المُجمَلة أو الإجمالية بلُغة الأصوليين الواضحة المنطقية والدقيقة جداً – حساب وميزان – يُمكِن التعاطي معها أو لا يُمكِن؟ يُمكِن، بالعكس! يُمكِن أيضاً تشريع فلسفات قانونية دستورية على أساس هذه المبادئ ببساطة، وقد فعل المُسلِمون ذلك والحمد لله، وكتبوا في السياسة الشرعية والفقه الشرعي مُجلَّدات كثيرة جداً جداً، ودائماً ينحازون في الإجمال إلى هذه المبادئ، ينحازون لها في الإجمال وإن وَجِدَ – كما قلنا – مِن بعضهم مَن حرَّف وزيَّف، الأمة الآن في وعيها المجموعي تنحاز إلى هذه المبادئ وتستدعيها وتستدعي النماذج التي كرَّستها وبلورتها في الحياة عملياً، كعمر وغير عمر، الأمة تعرف ذلك، فلا تقل لي هذا مُطلَق ولا يُمكِن أن أتعاطى معه كنسبي، هذا كلام لبس! فقط يعكس الالتباس في الفهم لدى المُصطلِح نفسه، الذي وضع هذا الاصطلاح وعمَّمه لكي لا يقول في النهاية شيئاً، بالعكس! لكي ينفي ما يُمكِن أن يُقال، فهذا معنى الإجمال في هذه الأشياء، ونحن نحتاجها.
وعلى كل حال أنا قلت في أول المُحاضَرة اليوم – حتى لا نكون أيضاً طوباويين – الآتي، ما هي الدولة؟ وما هي مُقوِّمات الدولة؟ أربعة مُقوِّمات، أليس كذلك؟ هل يستحيل على عباد الله المُسلِمين أن يُقيموا دولة بهذا المعنى؟ هل هذا من الصعب عليهم؟ هل هذا حلالٌ للطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِـنْسِ، أي لكل عباد الله الآخرين؟ هل يُمكِن للمُسلِمين – كمُسلِمين بعقليتهم، بشريعتهم، وبالقرآن – أن يُقيموا دولة تتحدَّد مُقوِّماتها في إقليم، في شعب، في سُلطة عُليا، وفي شرعية بحيث يسود القانون الإسلامي وهو القرآن – مثلاً – على الجميع؟ هذا حصل تاريخياً ويحصل، يُمكِن أن يحصل باستمرار! ما هي المُشكِلة؟ الآن أنت طرحت شيئاً آخر، أنت قلت لو جاء مجموعة من الإسلاميين الآن – مثلاً – وحكموا يُمكِن أن يستخدموا النص كسلاح للقضاء على الآخرين وتكفير الآخرين واعتقال حريات الآخرين و… و… و… – إلى آخره – وأن يفعلوا ربما أسوأ مما فعل ستالين Stalin، أنت قلت هذا! أليس كذلك؟ وأنا أقول لك هذا مُمكِن مع الإسلاميين ومع غير الإسلاميين، وقد تم مع غير الإسلاميين أكثر، أليس كذلك؟ الإسلاميون على الأقل الفُرص التي أُعطت لهم ضئيلة جداً جداً جداً، الخلل ليس في النص ولا في طبيعة النص، الخلل هل تعرف أين؟ الخلل أيضاً في الميكانيزمات Mechanisms، في الآليات! آليات التعاطي مع المفهوم الإسلامي، مع الدليل، مع النص الإسلامي! فنحن نقول لابد أن تكون هذه الأوليات أو الآليات مُحدَّدة بشكل مُؤسَّساتي، بحيث لا تُترَك للأفراد، لا تُترَك لاجتهادت فكرية تأملية استدلالية استنباطية فقط، لا! لابد أن تتحوَّل إلى مُؤسَّسات، علماً بأن المُسلِمين – بحمد الله – أيضاً أنجزوا في هذا القبيل شيئاً لا يُنكَر، العدالة – مثلاً – ألم تتمأسس لدينا في جهاز اسمه جهاز القضاء في الإسلام؟ أليس كذلك؟ وبالمُناسَبة في فترة غير مبخوسة من تاريخ المُسلِمين كان جهاز القضاء مُستقِلاً، وأول مَن تحدَّث أيضاً عن الفصل بين السُلطات هم المُسلِمون، هذا لكي أفيدك أيضاً، أليس كذلك؟ هذا يفتخر به الفكر الغربي، يقول لك نعم، هذا مُهِم جداً جداً، لأن السُلطة المُطلَقة مفسدة مُطلَقة، ولذلك لابد من مُقارَعة سُلطة بسُلطة، لابد من استقلال السُلط بعضها عن بعض، لو سُلطة واحدة هيمنت على البقية سينتهي كل شيئ، ابتلعتها! فلابد أن تستقل، فالقضاء كان في فترة غير مبخوسة من تاريخنا مُستقِلاً، علماً بأن هناك حوادث يحكيها التاريخ الذي حكى تاريخ المُستبِدين، يحكي عن هؤلاء المُستبِدين وكيف كان يُؤتى بهم هكذا، وكان يُهدِّد القاضي بالاستقالة، واستقال غير واحد! واستقالته كانت تُعتبَر تجريماً لمَن وتشنيعاً على مَن؟ على الخليفة أو الأمير أو على ابن عمه، يقول لا يُمكِن، لابد أن يأتي الخليفة وابن عمه كما يأتي اليهودي أو النصراني أو المُسلِم المسكين، يأتي ويجلس على قدم سواء، كان يُوجَد استقلال للقضاء، بالعكس! بعض هؤلاء الذين نُسميهم مُستبِدين أيضاً كان فيهم بعض الخير، هم الذين طبَّقوا فكرة غريبة جداً جداً، كانت هناك صناديق تُوضَع في الشوارع، وأي إنسان مُتظلِّم لا يستطيع أن يرفع مظلمته إلى القاضي – لأن ربما هناك قوى مُعيَّنة تقمعه وتكبته، وربما كانت هناك سُلط تُخيف حتى القضاء أنفسهم، ممنوع! أُناس أمراء، أمراء أجناد، أمراء جيش، عسكر كما تعرف – يكتبها غي ورقة، فكان الخليفة يفعل هذ الشيئ، وأي إنسان يضع الورقة الخاصة به ثم يأتي الخليفة بنفسه ويقرأ هذه الورقات لكي يضع العدالة فعلاً على ميزانها، شيئ عجيب! أي حس العدالة كان موجوداً، ومأسسنا العدالة في جهاز القضاء، أنشأنا له جهازاً، كان جهازاً حقيقياً وكان من أفخر الأجهزة في الدولة الإسلامية، أليس كذلك؟ ولم يكن بالمُناسَبة فوق قاضي القُضاة الذي هو أعلى سُلطة قضائية إلا شخص الخليفة، والخليفة كان يخضع للقضاء المُستقِل أيضاً، أين هذا؟ موجود!
فياليت – هذا ما أُريد أن أقوله، وقد قلته في مرات عديدة، حتى لا تحدث مشاكل في الدولة الإسلامية – كل المفاهيم الأُخرى تُمأسس بنفس الطريقة، فالشورى – مثلاً – لابد أن تُمأسس وبشكل واضح جداً، اليوم أنا أتيت بفكرة جديدة – مثلاً – في موضوع الناخبين وموضوع وكلاء الشعب، وأنا قلت ينبغي ألا يكون البرلمان نفسه أو مجلس الشعب هو السُلطة المُخوَّلة في فصل بعض هؤلاء الوكلاء، لا! غلط هذا، لأنه يخضع – كما قلنا – للعبة الأكثرية والأقلية في المجلس، أليس كذلك؟ وهذه تُمارَس باستمرار للأسف، خاصة في الدول العربية، لكن نحن نُريد أن نُمأسس هذه الفكرة – فكرة الفصل أو العزل – بحيث يكون تابعة لمُؤسَّسة شعبية، تتبع الأمة ولا تتبع البرلمان ولا الدولة، بحيث أن الذين وكَّلوا هم الذين يستطيعون أن يعزلوا، فكرة جميلة! لو طُبِّقت سوف ترى أثرها، سوف نتقي بها ظلماً كثيراً أو حيفاً كثيراً يقع، وهكذا!
(ملحوظة) ذكر أحد الحضور موضوع الناخبين، فقال الأستاذ عدنان إبرهيم إنه سيتناول الآن موضوع الناخبين، أي موضوع البرلمانيين كما يُسمونهم الآن، في البرلمانات المعهودة البرلمان نفسه عنده الحق في أن يُصدِر – مثلاً – بحسب الأكثرية قراراً بعزل هؤلاء الناخبين، البرلمان عنده السُلطة هذه وليس الشعب، أعني البرلمانيين، البرلماني – عضو في البرلمان – هو وكيل الشعب، الذي يتكلَّم باسم الحي أو باسم البلدة أو باسم المنطقة التي هو فيها، أليس كذلك؟ مَن الذي انتخبه؟ ليس البرلمان، الشعب والناس في جهة مُعيَّنة، فأنا أقول العدل والصحيح أن الذين وكَّلوخ هم الذين يستطيعون أن يعزلوه، حتى لا تُمارَس في البرلمان لُعبة أكثرية وأقلية، لأن هذا قد يكون من الأقلية، من حزب أقلية! أليس كذلك؟ ومن ثم سيضيع هذا، الأفضل أن يكون الأمر بيد الشعب، بيد الذين وكَّلوا هؤلاء، نحن نُسميهم وكلاء الشعب، هم الذين وكَّلوهم وهم الذين يعزلونهم، وبالتالي سوف نتقي هذه اللعبة، لكن لابد أن نُمأًسسها مُباشَرةً – ليس كفكرة – وسوف تنجح مُباشَرةً، وهكذا في كل شيئ!
مثلاً موضوع – كما قلنا من قبل في الدرس السابق – مُدة الحاكم أو مُدة الولاية العامة، التاريخ الإسلامي لم يشهد إلا أنموذجاً واحداً، وهو البيعة الأبدية، للعمر كله! هذه غير مُلزِمة، وليس عندنا أي نص شرعي يُؤكِّد أن هذه الصيغة هي الصيغة الفُضلى أو الأحسن أو المُلزِمة أبداً أبداً، إنما هي مُجرَّد سابقة تاريخية، لا تعني أكثر من كونها سابقة! أليس كذلك؟ نحن الآن نرى على ضوء التجارب التي مرت بها الأمة الإسلامية وتجارب الآخرين أن الأفضل تحديد هذه المُدة، وهذا الأمر قد يختلف عما هو الآن، ليس شرطاً أن تكون أربع سنوات، يُمكِن أن نُطوِّر أشياء ليس لها علاقة بكل التجربة الغربية، يُمكِن هذا لعشر سنوات، يُمكِن لثلاث مُدد، يُمكِن لمُدتين، ويُمكِن لمُدة، حسبما نرى! هذا يعود لنا، وعندنا الحرية الكاملة أن نفعل ذلك.
(ملحوظة) سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور بالمُداخَلة قائلاً تفضَّل أخ إبراهيم، فعبَّر عن اعتراضه بسبب موضوع الإجماع، لكن فضيلته قال موضوع الإجماع بهذه الطريقة لا معنى له حين تقول لي هذه الخُطة أو هذه المسألة لقيت إجماعاً من الصحابة، فهي طبعاً لقيت إجماعاً سكوتياً على كل حال، أليس كذلك؟ إذا أردنا أن نتكلَّم بلُغة الأصول فهذا إجماع سكوتي، بمعنى أنهم لم يُؤخَذ رأيهم هكذا فقالوا نعم، نُريد هذا ونُريد أن يبقى كذا، كل ما كان في بالهم موضوع البيعة، لم تُطرَح أصلاً فكرة تحديد المُدة، لم تُطرَح! إذا طُرِحَت فلتقل لي إنها طُرِحَت، غير موجود هذا! ليس عندنا أي سابقة تُفيد بأن موضوع تحديد المُدة طُرِح، (ملحوظة) قال الأخ إبراهيم إنها كانت مُسلَّمة في عقول الجميع، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم، هل تعرف لماذا؟ لأن هذا ما كان يحدث حتى في تاريخ الأمم الثانية، الأباطرة والسلاطين كانوا هكذا، كلهم كانوا يمكثون مُدة الحياة، وهم صدروا عن نفس المبدأ، البيعة هذه تكون كذا وكذا، ولم يطرح واحد موضوع تحديد المُدة، لكن الأمر اختلف بعد أن عانى المُسلِمون ما عانوا من هذه النُقطة بالذات، وأنا أعتبر لو كانت – مثلاً – مُدة الخليفة تُحدَّد – صدِّقني – لما قُتِل سيدنا عثمان ولا ما حصل ما حصل، أليس كذلك؟ لو كانت تعلم الأمة أن عثمان بن عفان – عليه الرضوان والرحمة – مثلاً سيحكم خمس سنين ثم يرحل لما حصل ما حصل، لو كنتم تُشكِّلون أغلبية يا تسعة آلاف ولم تكن هذه أغلبية سيف كما قال كرومويل Cromwell وإنما كانت أغلبية حقيقية سوف نرى مصداق هذا، سوف تكون هناك انتخابات جديدة، وإذا كنتم تُشكِّلون الأغلبية فسيسقط عثمان ومن ثم سيأتي غيره، أي كان يُمكِن أن تُحَل بالتداول السلمي فعلاً من غير قطرة دم واحدة، لكن عثمان من جهته قال لا أخلع قميصاً قمصنيه الله، لي هذا للأبد وأنا لن أتنازل عنه! وهم قالوا هناك انحرافات وهناك أشياء تتعلَّق بكذا وكذا، ولن ينجح في كشفها إلا السيف، فوقعت الفتنة وإلى اليوم نعيش عقابيل هذه الفتنة!
إذن كان هذا الأفضل وفق التجربة التاريخية مائة مرة، وكما نقول دائماً بالمُناسَبة درس التاريخ هو المآلات، ينبغي أن نفهم درس التاريخ! محمد إقبال في تجديد الفكر الديني ماذا يقول؟ يقول من إضافات القرآن الجديدة والجدية حقاً أنه أعطانا أو فتح أعيننا على مصدرين جديدين للمعرفة، لم يكونا مُتاحين بهذا الشكل قبل القرآن، ما هما؟ الطبيعة – وهذا كلامي اليوم معك، أليس كذلك؟ العلم التجريبي، يقول الطبيعة، هذا غير التأملية الأرسطية، يقول الطبيعة، أي الكون – والتاريخ يقول إقبال، وهذا الكلام في مُنتهى الذكاء، وحين تقرأ القرآن فعلاً تجد هذا، ولذلك أنا قلت مرة في تصنيف أسماء السور وفي تصنيف كلمات القرآن سوف تجد أن ست وثلاثين في المائة من القرآن الكريم هو آيات في العلوم الإنسانية، في التاريخ، في المُجتمَع، في السياسة، وفي كل هذه الأشياء، تصوَّر! ست وثلاثون في المائة في هذه المسائل، وحوالي ست وعشرين في المائة في العلوم الكونية والطبيعية، أعلى نسبتين! وحوالي أربع وعشرين في المائة في العقيدة، وواحدة في المائة في العبادة، ولا تُوجَد أي نسبة مئوية في الحدود، لأن كل حد ذُكِر مرة واحدة، حد السرقة مرة، حد جلد الزُناة مرة، حد القذف مرة، القصاص مرة، والقتل الخطأ مرة، كله مرة! كله مرة مرة مرة مرة مرة، لا تُوجَد نسبة! لكن انظر إلى الطبيعة إذن كما يقول إقبال، فهي بنسبة ست وعشرين في المائة، والتاريخ بنسبة ست وثلاثين في المائة، العلوم الإنسانية عموماً! التاريخ وما دار مداره طبعاً، أي في فلسفة الاجتماع الإنساني عموماً، فإذن هذان مصدران جديدان، فلابد في ضوء تجربتنا التاريخية أن نفهم أن هذا الأمر لم يكن مُوفَّقاً على الأقل، ليس أكثر توفيقاً، ليس الأفضل! فهذا متروك لنا أيضاً، ليس عندنا أي مُشكِلة – الحمد لله – في الفكر السياسي الإسلامي، متروك للأمة، تستطيع هذا.
فما أُريد أن أقوله المُسلِمون – بحمد الله – بما عندهم من قواعد دستورية ذات أصول إلهية قرآنية نبوية – بالعكس – هم الأقرب إلى تحقيق العدالة وتحقيق الأمن فقط لو أنهم تعلَّموا من تاريخهم ومأسسوا المفاهيم، مُشكِلتنا في المأسسة فقط، صدِّقني! ولذلك أحياناً يأتي الإنسان ويكون صاحب نية حسنة ولا ينجح، عبد الملك بن مروان لا أستطيع أن أتهمه، هذا الرجل كان طالب علم وحافظ لكتاب الله ويقرأ الحديث ويرويه مع الإمام مالك، أي كان رجلاً صالحاً، لا أستطيع أن أقول إنه كان مُنافِقاً، لكن حين أخذ السُلطة استجال بالكامل إنساناً آخر، لماذا؟ لم تكن هناك مُؤسَّسات رقابة، وُجِدَت فكرة الرقابة على الحكّام، صحيح! موجودة عندنا في الدين، موجودة في كلام الرسول وفي كلام أبي بكر وعمر، موجودة! لكن لم تتحوَّل هذه الأفكار إلى مُؤسَّسة، لو تحوَّلت إلى مؤسَّسة حقيقية لها قوة واستقلالية عن الدولة لكان يُمكِن أن تُلجِم هذا الخليفة، أليس كذلك؟ فهذا الذي ينقصنا فقط! الغربيون فعلوا بعض هذا الشيئ واستفادوا منه فوائد كُبرى لا تُنكَر، فهذا هو! وهذا ليس مُستحيلاً، انتبه لأنك تتحدَّث عن المُطلَق والنسبي، ليس مُستحيلاً أن نفعله وليس هناك مَن يُعارِض فيه إلا مِمَن ضاق عطنهم، هناك طبعاً بعض الناس – والعياذ بالله -عندهم أفكار غريبة، لكن أي مُفكِّر، أي عالم مُسلِم، أي فقيه مُسلِم واعٍ ليس عنده مُمانَعة لأي شيئ مما ذكرنا، يقول هذا كله جائز، حتى تشكيل الاحزاب السياسية في الدولة الإسلامية أجازه الفقهاء المُعاصِرون، أكثرهم! فقهاء الحركية الإسلامية أجازوا الأحزاب، ابن تيمية – رحمة الله عليه – عنده فتوى في الأحزاب، وهي فتوى عجيبة جداً جداً، قال إن كان هذا الحزب – تخيَّلوا هذا، هذه الكلمة نحتاجها الآن حتى في الجماعات والاحزاب الإسلامية، والله العظيم! نحتاج هذه الكلمة بنصها وفصها، قال إن كان هذا الجزب، ولم يقل مثل بعض ضيقي العطن لا، هما حزبان فقط: حزب الله وهم المُفلِحون، وحزب الشيطان وهم الخاسرون الخائبون، لم يقل هذا ابن تيمية، قال لا، حزب الله هذا صيغة عامة يُمكِن أن يدخل تحتها مائة ألف حزب وكلها تكون من حزب الله، أليس كذلك؟ أي حزب يقوم به مُؤمِنون هو من حزب الله، ولا مانع! في النهاية حتى الشافعية والمالكية وما إلى ذلك أيضاً كلهم من أهل الله ومن جماعة المُسلِمين، لا تقولوا هؤلاء أديان أُخرى، فكذلك الأحزاب السياسية، هذه أحزاب فكرية فقهية، وهذه أحزاب سياسية، في العمل السياسي، فماذا يقول ابن تيمية – يتواصى بالحق وبالصبر وبنُصرة المظلوم، المُهِم – معنى كلامه – بمبادئ الإسلام وبمبادئ الدين! ولا يتعصَّب لمَن فيه بالحق والباطل وعلى مَن ليس منه بالحق وبالباطل – انتبهوا، هو يفهم النُعرة الحزبية، سُبحان الله! ابن تيمية يعرفها، يُوجَد تنظيم مُعيَّن وتغلب عليه الحزبية، فما الذي يحدث فيه عموماً؟ تعصب لأهل الحزب بالحق وبالباطل، ما دام هو معنا فنحن معه، هذا الاخ معنا في حزبنا ونحن معه، نُريد أن ننصره حتى لو كان مُبطِلاً، وهذا الرجل الآخر ما دام ليس معنا فنحن ضده حتى وإن كان مُحِقاً، قال لا، هنا يصير هؤلاء مُخطئين، نزغتهم نزغة شيطانية، فمكفولة حتى حرية العمل وتشكيل أحزاب للمُعارَضة أيضاً، للمُعارَضة! لأن في النهاية أحزاب المُعارَضة ماذا تُمارِس؟ الرقابة، وبشكل دقيق وحذر ومُتقصِّد أيضاً، فلا تترك لا كبيرة ولا صغيرة، لكن طبعاً المُعارَضة الغربية هنا مشنوعة لأشياء كثيرة، لكن أعتقد أن المُعارَضة في الإطار الإسلامي سوف تكون مضبوطة بأخلاقيات المُسلِمين، أليس كذلك؟ وبأخلاقيات القرآن وبأخلاقيات السُنة، سوف تكون أبرأ حتى من كثير من الأدواء، وهكذا وهكذا!
فما أُريد أن أقوله مبادئنا الإجمالية الدستورية لا يُوجَد أي مانع مُطلَقاً من تسجيلها على الواقع وتصريفها وتصريف الواقع وفقها أبداً بحُجة المُطلَق والنسبي.
(ملحوظة) أشاد الأخ عمر بجواب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الذي وصفه بالرائع ثم أوضح أن فضيلته لم يتكلَّم في قضية القلة التي قد تحكم وقضية مَن يحصلون على نسبة واحد وخمسين في المائة، فقال له فضيلته نعم، هذا صحيح، أنت ذكَّرتني بها وسأتكلَّم فيها، أحسنت! لقد نسيت القضية هذه، الأخ عمر – بارك الله فيه – قال مسألة أننا دولة إسلامية تحكم الناس بالكتاب والسُنة تعني انها لن تُتيح مجالاً للتجربة البشرية، للإرادة البشرية، وللهوى البشرية، لكي يصل ويُجرِّب، وهذه الفكرة ناقشتها من قبل في خُطبتين، أليس كذلك؟ فكرة التجربة الحداثية هذه التي تقوم كلها على فكرة واحدة، فكرة ماذا؟ اقتحام المجهول، أليس كذلك؟ وتجريب كل معنى، والكفر بكل معنى مُقرَّر سلفاً حتى يُجرَّب، فإما نقبل وإما لا نقبل، هذه روح الحداثة بالمُناسَبة، يُوجَد كلام عن الحداثة لكن روح الحداثة هي هذه الفكرة، هذه هي الحداثة! علماً بأننا نقدناها وقلنا حين نُريد أن نُقوِّم أي اتجاه أو أي نظرية أو أي توجّه عام سيكون هذا عبر إنتاجه، وعبر تجربته، هل تجربة الحداثة الغربية نجحت؟ بالعكس! تجربة تعيسة جداً جداً، هل تعرف ما الذي حدث هنا؟ السياق الغربي كله في العلم المادي فقط جيد ونجح، ما عدا العلم المادي هناك إخفاقات، وهي أكثر من نجاحاته، حتى حين تقول لي الحريات والديمقراطية، إخفاقاتها أكثر من نجاحاتها، وكُتلة الشعب مُستبعَدة، وفي النهاية هو أشبه بالحُكم الأوليغارشي كما قال أفلاطون Plato، حُكم نُخبة ضئيلة جداً جداً سواء في أمريكا أو في أوروبا، وخاصة في أمريكا طبعاً، حثكم نُخبة! والشعب كله مُستبعَد، وللأسف حتى المعارف والفلسفات والعلوم تُنتَج – حتى في الاكاديميات – لكي تُوجِّه هذا الشعب بطريقة مُعيَّنة، وقد فضح كل هذه اللُعبة الخطيرة جداً – لُعبة الهيمنة لسُلطة المعرفة – هربرت ماركيوز Herbert Marcuse، اليساري الماركسي العالمي! علماً بأنه كان المُحرِّض الاول ثورة الطلّاب في الثاني والستين، أليس كذلك؟ ماركيوز Marcuse، معروف! ورفعوا صوره ورفعوا اسمه، لأنه أفهمهم أنكم مُستعبَدون ومُستبعَدون وأنتم لا تدرون، هل تظنون أنكم تعرفون الديمقراطية؟ بالعكس! أنتم كالأغنام، أنتم مُستغنَمون، فهربرت ماركيوز Herbert Marcuse فعل هذا، والآن يفعل هذا هابرماس Habermas – يورغن هابرماس Jürgen Habermas – في كتاباته، خاصة المعرفة والمصلحة، فالمُهِم هناك إخفاقات ذريعة على مُستوى الفرد وعلى مُستوى الأسرة، إخفاقات مُخيفة جداً جداً ومُدمِّرة، على مُستوى حتى سعادة الإنسان، استقرار الإنسان، وطمأنينة الإنسان، من أكثر الأشياء تدميراً! على مُستوى العلاقات بين الشعوب الدول هناك – ما شاء الله – حداثة المذابح المليونية، ولذلك الىن يُعترَف في كل مصادر الفكر الغربي بأن جوهر الحداثة دموي عنفي، كله عنف الآن! بالمُناسَبة يُمكِن أن تقرأ حتى الآن بعض تشريح القاعدة، بعض الناس تحدَّثوا عن القاعدة وقالوا هذه ظاهرة طبيعية أصلاً، كيف تتحدَّث عن القاعدة وابن لادن وما إلى ذلك؟ لا! العنف هو روح الحداثة المُعاصِرة، أليس كذلك؟ هذا العنف المُقنَّن هو روح الحداثة الغربية، يقوم على العنف!
الاستعمار أبو الحداثة، أليس كذلك؟ وابن الحداثة في نفس الوقت، الاستعمار أسوأ ظاهرة في تاريخ البشرية، ذبح مئات الملايين من البشر واستعبادهم وتدمير صناعاتهم وتدمير بُناهم التحتية والإنتاجية بالكامل، هذه الحداثة الغربية، فاشلة! ولذلك أنا أقول لك أيضاً هذه الحداثة تعمل دائماً – كما شرحت في الخُطبة قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع – كالتالي، تأتي – مثلاً – وتفتجر وتبتكر تصوراً مُعيَّناً لا يتمتع بتجربة بشرية، لم يُجرَّب، أليس كذلك؟ لأول مرة! في حين أنها تُطالِب بإلغاء تجربة بشرية عمرها خمسة آلاف أو عشرة آلاف سنة، مُؤسَّسة كالأسرة تتنكَّر لها الحداثة، تقول ما هذا؟ كلام فارغ! ما الأسرة هذه؟ لا نُريدها، علماً بان حتى ماركس Marx تنكَّر للأسرة، ماركس Marx تنكَّر للأسرة وكذلك إنجلز Engels في أفكاره وكتاباته للأسف، لأنه ابن الحداثة أيضاً في النهاية، هناك نُقطة تلتقي عندها الليبرالية الغربية الفردية والماركسية أيضاً الغربية، يلتقيان والتقيا، وكان تُنبئ بأنهما سوف يلتقيان، والتقيا في نفس النُقطة للأسف الشديد، فهي تتنكَّر لمُؤسَّسة خدمت في التاريخ الإنساني كله! خدمت في التاريخ الإنساني من أول يوم وأثبتت نجاعتها وقدرتها في جميع الميادين، نجحت اقتصادياً الأسرة، وحتى كلمة Economy معناها في الأصل تدبير المنزل، أصلها من هذه المُؤسَّسة الصغيرة، الاقتصاد كُله! فاقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً، ونفسياً سيكولوجياً – بل في جميع الميادين – أفادت، هم تنكَّروا لها بالكامل لكي يُجرِّبوا شيئ آخر خارج هذه المُؤسَّسة بالكامل، جرَّبوه فوجدوا أنه مُدمِّر، إذن ما الحل الآن؟ ما الحل؟ ليس العودة للتصحيح، بالعكس! نفتجر رأياً جديداً أيضاً، لا يتمتع بأي مصداقية تاريخية، وبالتالي – يقول أحد المُفكِّرين الغربيين – تأتي طروحات حداثتنا – انظر ماذا يقول، انظر إلى هذا التعبير الذكي – قفزةً في الهواء، أرأيت؟ من غير جذور! مُعلَّقة هكذا، وطبعاً لا تلبث أن تهوي، أليس كذلك؟ فيتحطَّم الإنسان بها، نحن لسنا مع هذا الشيئ، بالعكس!
بعد ذلك – دعونا نكون واقعيين أكثر – لِمَ تُغرينا فكرة أن نُجرِّب كل شيئ ونُشرِّع كل شيئ ولو على حساب تدمير شعوب وأجيال وناس؟ لِمَ لا تُغرينا فكرة أن نستخدم عقولنا وأن نقرأ تاريخ البشر ووقائع البشر أو واقع البشر ثم نُقارِن ذلك بالنص؟ أليس كذلك؟ وماذا تُريدون أحسن من النص؟ هذا كلامنا اليوم وكلامنا في كل مقام، النص ينتصر للضعيف، ينتصر للفقير، ينتصر للمُستعمَر، وينتصر للمظلوم، أليس كذلك؟ يُكرِّم المرأة، يُكرِّم الإنسان بما هو إنسان، ويُسوِّي بين البشر تحت عنوان أخوة وليس تحت عنوان قانوني “المُساواة القانونية”، أي كل القيم النبيلة إلا أن تكون مُطالَبتنا بصراحة بإلغاء هذه القيم المُقدَّسة النبيلة وتجريب أضدادها، وهذا ليس شيئاً نهيلياً فقط بل هذا هو الدمار بعينه، وهذا الذي يحصل، لكن ائتني – أنا أقول لك بصراحة – بأي قيمة في القرآن أو في الدين ضد الإنسان وضد فاعليته وضد تنمية حتى كل قُدر الإنسان، وبعد ذلك سوف يكون لنا حديث آخر، لكن الذي حدث هو العكس تماماً بحمد الله تبارك وتعالى، هذا هو!
(ملحوظة) سأل الأخ عمر ماذا لو حصل استفتاء واختارت الأمة الإسلامية ألا تُحكَم بكتاب الله؟ هل يُمكِن لفئة قليلة أن تحكم؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، أنا ضد هذا الرأي، أنا سأقول هذا، وطبعاً الكثير من الشباب المُسلِم للأسف – ليسوا من المُفكِّرين – سينزعجون من هذا الكلام، أنا ضد أن تحكم أقلية بالقوة وبالسلاح وبالدبابة أكثرية على غير رغبتها، وكنت أقول بلُغة حتى عامية في ستين داهية، إذا سبعون أو خمس ستون في المائة قالوا لا نُريد الإسلام فنحن سنقول يا أخي في ستين داهية، اذهبوا! وفي الحقيقة هذا لا يكون تقصيراً منهم، أنا أقول لك هذا، ولذلك حتى انظر إلى تجربة بناء الدولة النبوية، كيف تمت؟ على مرحلتين، ونحن الآن لابد أن نتقيل طريقة المرحلتين: الدعوة والدولة، في البداية كانت هناك مرحلة الدعوة، مرحلة الدعوة هي التي مهَّدت، وبالمُناسَبة ليس من أهل المدينة، أليس كذلك؟ أخواله نعم كانوا من بني النجّار، لكن هذا النسب لم يكن له تأثير كبير في الدعوة، لم نر له أي تأثير بصراحة، أخواله كانوا من بني النجّار لكن هو كان من قريش، من صميم قريش، من وسط قريشّ قريش نبذته وألجأته إلى الخروج والهجرة، المدينة استقبلته وفتحت له حضنها وحجرها، لماذا؟ الدعوة فعلت ذلك، أليس كذلك؟ الدعوة! وخاصة بعد العقبتين، وبالدُعاة الذين مارسوا دوراً وخاصة على رأسهم مُصعب بن عُمير، بالدعوة – سُبحان الله – أُناس أغارب عنه ساعدوه، لا يُوجَد نسب، لا يُوجَد صلات دموية قبلية أبداً، بالعكس! الوضع مُختلِف، وحتى المُجتمَع مُختلِف، حتى طبيعته واقتصاده وما إلى ذلك كان مُختلِفاً بالكامل عن مُجتمَع مكة، أليس كذلك؟ قامت دولة في المدينة، لم تقم في مكة! ما الذي مهَّد لذلك؟ الدعوة، ولذلك نحن طريقنا أقصر من رسول الله مائة مليون مرة، أليس كذلك؟ الرسول كان ينحت في صخر، النبي عليه السلام، والله العظيم! نحن في أمة إسلامية، وبالمُناسَية كلامك هذا – فرض المُحال ليس بمُحال – مُجرَّد فرضية، الواقع يُؤكِّد عكسه تماماً بحمد الله تبارك وتعالى، أتُريد ماليزيا؟ أتُريد إندونيسيا؟ أتُريد تركيا؟ أتُريد إيران؟ أتُريد الدول العربية؟ كل دولة لو استُفتيَ فيها الشعب وقيل لهم أتُريدون أن تُحكَموا بالإسلام؟ – ليس بحكومة الملالي أو بجماعة الخُميني أو بجماعة الترابي أو رباني، لا! ليس هذا المقصود، وإنما كمبدأ عام أتُريدون أن تُحكَموا بالإسلام وبشرع الله؟ – لقالوا نعم، لكن ينبغي – أنا أقول بصراحة – على الأحزاب والجماعات الإسلامية الآن أن تُطوِّر برامج سياسية واضحة، نحن مللنا من حكاية أن البرامج تأتي في وقتها، هذا الكلام يُعبِّر عن قصور بصراحة وعن كسل فكري، غير صحيح يا أخي، ما الذي يمنع؟ أسهل شيئ تطوير برنامج سياسي، من أسهل ما يكون يا أخي! ليس فيه صعوبة، يجتمع الإخصائيون كلٌ في ميدانه لكي يصيغوا البرنامج هذا، ما المُشكِلة؟ والإسلام خصب جداً، فنحن نستطيع أن نفعل هذا بسهولة والجحمد لله، قدِّم برنامجك بشكل واضح يا رجل، ولا تكن مُتعجرِفاً! لأن بعض الناس يُحاوِل أن يُخاطِب أهواء الجماهير، أليس كذلك؟ لأن حتى بالبرنامج هذا لابد أن تُحدِّد سياستك الداخلية وسياستك الخارجية وسياستك الإقليمية أيضاً، أليس كذلك؟ مع دول الجوار التي يثوجَد معها مشاكل حدودية أو مشاكل مذهبية، حدِّد بوضوح! لكن قبل ذلك – أنا أقول لك هنا يُوجَد تقصير، هذه نُقطة ضعف فينا كإسلاميين – لابد أن تستوفي مرحلة زمانية كافية في مشوار الدعوة، مشوار الدعوة يبدأ بمثل المجالس هذه، تختلط بالناس، تنزل للجماهير في المساجد، في الأسواق، في الجامعات، في الكليات، عبر الصحيفة، وعبر كل الوسائل! ثم تحكي ما عندك، فتربي الجيل وتبث أفكارك وتشعر الناس بالطمأنينة إلى اتجاهك، وكما قلت أمس في الخُطبة تُبرهِن للناس أنني لا أُريد أن أصل إلى الحُكم لكي أتنفَّذ، بالعكس! لا نُريد إلا أن نصل بكم وليس على أكتافكم لكي نُنصِفكم ونُنصِف
أنفسنا، لكن أيضاً ليس ضمن شعارات طوباوية مثل كلامي هذا، وإنما ضمن برامج مُحدَّدة، وضمن آليات عمل واضحة أيضاً: واحد، اثنان، ثلاثة، عشرة، وعشرون! نحن سنفعل هذا والأمة ستُحاسِبنا على هذا البرنامج، هذا الذي نُريده نحن، لكن الإسلاميون للأسف دائماً لا يفعلون هذا، وسمعنا أكابرهم في نقاش مع العلمانيين – سمعنا هذا مع فودة ومع غيره – ووجدنا مَن يقول البرنامج سيأتي في وقته، ما معنى يا أخي أنه سيأتي في وقته؟ متى وقته؟ لماذا لا يكون وقته الآن يا أخي؟ لماذا لا تصوغه؟ أحقر الأحزاب تصوغ برامج – ما شاء الله – طويلة عريضة، أليس كذلك؟ مسألة إنشائية، وأنت عندك القدرة.
فما أُريد أن أقوله إن انحياز الامة – والحمد لله – في مجموعها – ولا يكن عندك أدنى شك في هذا الشيئ، والواقع يُؤيِّده – للإسلام، مُستحيل أن يكون غير هذا، وهذا الذي يزعج الغرب والشرق والصهاينة، بسبب الموضوع هذا! الحمد لله انحياز هذه الامة المرحومة – نسأل الله نُصرتها وتمكينها – لدينها بفضل الله تبارك وتعالى، ويزداد يوماً عن يوم، اليوم أخي أبو محمد قال لي أنا كنت في البلد هناك، وأنا أوصيته بأن يحضر لي كُتباً، وهذه الكُتب كلها فكرية علمانية، ليس لها علاقة بها الإسلام، قال لي هناك إقبال على معارض الكُتب، وتقريباً – قال لي – كل أسبوعين يُوجَد معرض كتاب، قلت له جيد، قال لي لكن بصراحة الكُتب هذه لا يشتريها أحد، فقلت له أعرف طبعاً، وقلت له سوف تجد أن عمر بعضها عشر سنوات وعمر بعضها أربع عشرة سنة، هناك كتاب من خمسمائة نُسخة حصَّلت نُسخة منه بعد أربع عشرة سنة، قلت له أنا عندي كُتب حصَّلت نُسختها بعد خمسين سنة والله، مطبوعة سنة خمسين أو تسع وأربعين، لأننا شعوب لا تقرأ هذه الأشياء بالذاتن قال لي الإقبال على الكتاب الإسلامية، قلت له طبعاً هذه ظاهرة طبيعية، الكتاب الإسلامي رائج تماماً!
أنا كنت مرة في السعودية – قبل سنة تقريباً – وذهبت إلى جناح دار المدى في أحد المعارض، علماً بأن هذه دار ماركسية، دار المدى معروفة! وأنا أقرأ لهم دائماً وأُرسالِهم، فذهبت إلى جناح دار المدى – الــ Suite الخاص بهم – في أحد المعارض، ولم أجد أي أحد عندهم، والله لم أجد أي أحد! أخذت مجموعة روايات نوبل Nobel وما إلى ذلك، وبعد ذلك سألتهم عن هذا الوضع، فتحدَّث رجل بمرارة، قال لي يا أخي لا يُوجَد إقبال، رُغم أننا نُترجِم أهم الأعمال وأضخم الأعمال، وفعلاً أعمال عالمية بصراحة مُحترَمة وترجمات رائعة جداً جداً، أي مبذول فيها جُهد غير عادين يا ليت يكون مُستوى النشر كله بهذا المُستوى الرائق، هم ماركسيون لكن الاعتراف بالحق فضيلة، قال لي يا أخي لا يُوجَد إقبال، ونُحاوِل أن نُخفِّض الأسعار ومع ذلك لا يُوجَد إقبال، والطبعات مُكلِفة حقيقةً، مُختلِفة عن غيرها! قال لي نحن بصراحة الآن فكَّرنا أن نفعل كما يفعل غيرنا، فقلت له ماذا؟ فقال سنطبع كُتباً إسلامية، والله العظيم! هو ماركسي وقال لي سنطبع كُتباً إسلامياً، وقال لي استكتبنا بعض الناس، وهم كتبوا لنا كلاماً فارغاً! هو يعتبر أنه كلام فارغ وُخرافات لكنه يُريد أن يعيش، لكي تسير الدار وتُقدِّم رسالتها الإلحادية المُمتازة العلمية لابد أن تعيش على أكتاف الإسلاميين وعلى أكتاف الكتاب الإسلامي، فهم لا يفهمون الظاهرة هذه!
فؤاد زكريا طيلة حياته كان يتكلَّم ويُؤلِّف، وقرأنا للمسكين فؤاد زكريا من قبل، وهو ماركسي علماني، وماذا بعد يا فؤاد زكريا؟ قال أنا في النهاية – بعد أن ظل المسكين لأربعين سنة في مُقارَعة مع المُجتمَع، ليس مع الإسلاميين وإنما مع المُجتمَع نفسه المصري والعربي – بصراحة وجدت نفسي ووجدنا أنفسنا – أي كعلمانيين وماركسيين طبعاً وما إلى ذلك – كالرجل الذي يأتي غريباً أجنبياً على الحارة، هل تعرف كيف هي الحارة العربية؟ أي رجل أجنبي يسألونه إلى أين؟ ما الأمر؟ تُريد مَن؟ والأطفال بالحجارة يرجمونه! أي هذا أبو رغال، فقال وجدنا أنفسنا فعلاً كأجنبي يأتي إلى حارة عربية، يُقابَل بالتجهم والاستنكار ويُرجَم بالحجارة من الأطفال، نحن مثل هذا! وجيد أنك اعترفت بالحق، أنت أجنبي! مُسكة النُخبة العربية حقيقةً أنها في حالة اغتراب عن أمتها، وتدّعي أنها نُخبة! نُخبة مَن أنت؟ أنت لست نُخبتي، لست مني، لا تُعبِّر عني، عادل نور عنده كتاب بصراحة أنصح أي واحد بأن يقرأه، والله جميل، في مُنتهى الجمال! كتاب بسيط ورائق وسلس، اسمه النُخبة والأهل، كل هذا الكتاب – في حوالي مائتي صفحة – يدور على هذه الفكرة، ويأتيك بمئات الأدلة الفكرية الواقعية، مُعاناة حقيقية! لأن النُخبة لا تُمثِّل أي أحد في بلادنا للأسف، تُمثِّل نفسها فقط، فهي مُنبَتة! مُنبَتة الأصول وليس لها علاقة بالمُجتمَع، ومن هنا فشلها بالمُناسَبة في أداء رسالتها التي تزعم لها التنويرية والتحريرية والتثويرية، يُوجَد فشل عجيب، وهم يتمرَّرون من هذا، يقولون كيف نشتغل لأربعين أو خمسين سنة ثم يأتي بعد ذلك شيخ تافه ويمسح كل هذا؟ وصحيح – أنا أعترف بهذا – هو تافه طبعاً، لأن هناك الكثير من الشيوخ التافهين الذين يظهرون في اقرأ ويصعدون المنابر، وأعترف بأنهم مُجرَّد تافهون حقيقة، لا لُغة، لا قرآن، لا نص، ولا فهم، لا شيئ! ثم يستحوذ الواحد منهم على ملايين الناس، أليس كذلك؟ وهذا ببعض الحكايا، حكايا عن فلان وعن علان، هذا ذهب يا إخواننا ويا ناس وما إلى ذلك، والناس تتأثَّر وتبكي، وحين يأتي تُسَد الشوارع والعواصم العربية، لماذا؟ ليس لأن الأمة تافهة، لا! هذا غلط، هذا التحليل أيضاً منا، غلط أن نقول أمتنا تافهة كإسلاميين أيضاً، لا ليست تافهة، الأمة يا أخي لا تُؤمِن إلا بنفسها، وهي لا تعرف معنى لنفسها إلا أنها أمة مُسلِمة، أمة محمد، أمة التوحيد يا رجل! أتُريد ان تخلعنا من جلودنا بأفكار ماركس Marx وأفكار هنتنجتون Huntington وأفكار فلان وعلان؟ كلام فارغ! هذا لا ينفع وهو غلط، لذلك أنا أقول لك – صدِّقني – الآن اقرأ حتى الفكر الغربي، وهذه بالمُناسَبة مُفارَقة ذكية جداً، فكر عصر التنوير The Age of Enlightenment! اقرأ ولن تجد واحداً يا أخي – لم يُوجَد واحد فيهم – كان يتقمَّص – مثلاً – تراثنا ومُفكِّرينا وخطابنا بشكل واضح، أليس كذلك؟ ماذا كانوا يفعلون؟ كانوا يتمثَّلونه، يتمثَّلونه! يقومون بعمل ميتابوليزم Metabolism فكري له إن جاز هذا التعبير، مثلما فعل ديكارت Descartes – مثلاً – مع الغزّالي بعد أن قرأه، لو جاء ديكارت Descartes – ما شاء الله عليه – بعُنجهية هؤلاء العلمانيين العرب التافهين وقال هذا الغزّالي، هذا أبو حامد، الغزّالي قال كذا وكذا، سوف يبصقون عليه ويرجمونه بحجر، سوف يقولون مَن هذا؟ إنه من المُسلِمين وهم أعدائنا وأعداء المسيح، هؤلاء الذين احتلوا قبر المسيح، يُبصَق عليه ويُرجَم، أليس كذلك؟ ولن يُؤدي أي رسالة ديكارت Descartes، لكنه كان أذكى من كل العلمانيين العرب الآن، ماذا يفعل ديكارت Descartes وأمثاله؟ يستوعب الغزّالي، يقرأ الغزّالي ويقرأ تراثه ثم يسرقه كما قلنا، يسرقه! في المكتبة الوطنية الآن موجود ما يُثبِت هذا، ديكارت Descartes أخذ من كُتب أبي حامد وكتب “يُنقَل إلى كتابنا مقالة في المنهج” بالأحمر، بالخط الأحمر! سرقة حقيقية، اختلاس حقيقي! ولكنه يتمثَّله، أنت الآن حين تأكل خبزاً هل يظل في جسمك خُبزاً؟ يصير لحماً ودماً، أليس كذلك؟ وأعصاباً وعروقاً وغُدداً، كله! الخبز هذا نفسه، أنت تمثَّلته، صار جُزءاً منك، أليس كذلك؟ فنحن للأسف لا نفعل هذا، العلمانيون حتى العرب لم يقوموا بعملية تمثل، فلماذا؟ لم يستطيعوا أن يقوموا بها ولن يستطيعوا أن يقوموا بها، أنا أقول لك إنهم لا يستطيعون! أنا أستطيع أن أقوم بعملية تمثل، أقدر على هذا! أقدر على أن آتي بفكرة غربية ثم أحوِّلها واجعلها في السياق الإسلامي كأنها من بناتنا، أليس كذلك؟ وتتواءم مع أفكارنا وأستفيد منها وأمتص ما فيها لآخر لحظة، العلماني لا يستطيع أن يفعل مثلي، هل تعرف لماذا؟ أنا ابن جذور، أنا عندي أصول، أنا عندي أصول وليس عندي استعارة، على أصولي أتمثَّل كل شيئ، عندي قدرة التمثل، لكن المُنبَت فوق الأرض وليس له جذور – المسكين الذي عنده قفزة في الهواء، أي هذا الحداثي – لا يقدر على هذا، ماذا يفعل المسكين؟ يستعير، يستعير استعارات ويُعطيك إياها، لكن أنت ترفضها، تقول له لان هذا ليست مني، لا أعترف به، غريب عني، أليس كذلك؟ اللون هذا لا أعرفه، الريحة هذه لا أعرفها، الطعم هذا لا أسيغه، لا أستمرئه، أليس كذلك؟ وعندك الحق يا أخي، كل الشعوب تفعل هذا، إلا نحن يُراد لنا أن نكون غير الشعوب وغير البشر، ونُتهَم بالغباء! انظر إلى الخطاب العلماني، كيف هو؟ يسب الأمة والإسلاميين كثيراً جداً، يتهم الأمة بالسذاجة، بالغباء، بالتفاهة، بالظلامية، بالرجعية، وبالماضوية، خُذ هذا القاموس الغريب العجيب! وهو غير قادر أن يقف مرة واحدة مع نفسه لكي يتهم نفسه بالغباء، بالظلامية، وبالانبتات من الجذور، فضلاً عن أنه غير قادر أن يستوعب التحدي، أليس كذلك؟ تحدي التنوير! لا يقدرون يا أخي أن يقفوا لكي يفعلوا هذا، لكن الغربيون أذكى منهم كما قلت لك، والله العظيم! لا يُمكِن أن تجد مونتسكيو Montesquieu يفعل ما يفعلونه، مونتسكيو Montesquieu بالمُناسَبة حلَّل الإمبراطورية العثمانية تحليلاً ذكياً جداً جداً، لكنه وقف موقف الناقد، أي أنه درس تاريخ الإسلام، وحلَّل عدة مُؤسَّسات أيضاً في التاريخ الإسلامي، حلَّلها! لكن لا يُمكِن ولو لمرة في كتابه الضخم المُكوَّن من عدة مُجلَّدات ضخمة – أكثر من ألف ومائتي صفحة – أن تشعر بأنه تبنى الخطاب الإسلامي استعارياً، أي كأنه استعاره، لم يحدث هذا أبداً، فهو يظل مقبولاً، وكذلك الحال مع كوندورسيه Condorcet وروسو Rousseau، كلهم بنفس الطريقة! لكن نحن لسنا كذلك يا أخي، ولذلك المثل الذي ضربته مرة في مُحاضَرة عن الثقافة في الرابطة كان مُعبِّراً، الشجرة إذا اعتملت من داخلها تنمو وتكبر وتُثمِر، أليس كذلك؟ لكن حين تأتي إلىّ بشجرة من البلاستيك Plastic مثل هذه وتُلصِق عليها ورقاً وتُلصِق عليها فروعاً وتُلصِق عليها أغصاناً – وستصير كبيرة وحلوة – هل ستنتظر من هذه الأغصان والفروع ثمرة؟ لن تأتي ثمرة، استعارات! العلمانيون العرب هكذا يفعلون، العلماني المسكين يستعير ويأتي بأشياء ويُترجِم ويُردِّد ويُكرِّر، مُستحيل! لابد أن تعتمل من داخلك، ولا تستطيع أن تعتمل من داخلك ما لم يكن لك إيمان بالهوية، بالذات، بالأنا، الأنا الخاصة بك كعربي مُسلِم!
انظر إلى كتاب ماكس فيبر Max weber – حكيت عنه عدة مرات، أليس كذلك؟ ماكس فيبر أثبت فيه أمراً هاماً ببساطة، وهذا كتاب مُمتاز وجدير بالقراءة – الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، أثبت فيه أن الإصلاح – Reformation – في أوروبا هنا لم يتم بنذ الدين وبالتنكر للدين، هذه مقولة فاسدة، لكن أيضاً يذيعها العلمانيون العرب ويقولون تحرَّروا من دينكم، هذا غير صحيح، بالعكس! وأصلاً هل تعرف ما اسمه؟ اسمه الإصلاح الديني، أليس كذلك؟ هذا اسمه! هكذا هم يُسمونه، لكن عندنا يُسمونه الإصلاح ويكذبون علينا، لكن هو اسمه الإصلاح الديني، وتم الإصلاح دينياً، أي تم تفعيل قدرة الإنسان من خلال الخطاب الديني، عبر أخلاق البروتستانتية التي تقول إن المملكة هنا وهناك أيضاً وإن العمل علامة على رضا الله عنك، حين تعمل وتُنجِز يرضى الله عنك، وقرأت تحليلاً لطيفاً جداً جداً لكاتب يقول هل تعرف لماذا ضرب البرجين هز العالم الغربي وبالذات الرأسمالية الأمريكية؟ شيئ رهيب، كأنك ضربت الكعبة عندنا، وبعد ذلك خرجت صرخات مجنونة وقالوا اضربوا الكعبة، لأنك فعلاً ضربت كعبتهم، أنت ضربت كعبتهم! التحليل الفلسفي لضرب هذين البرجين التوأمين أنك ضربت المُقدَّس الأكبر لهم، لماذا؟ لأن هذين البرجين التوأمين العظيمين الشاهقين الذاهبين في السماء أعلى علامة رمزية على رضا الله – تبارك وتعالى – عنهم، هذا عند البروتستانت، وأمريكا بروتستانت طبعاً، ساحقة! لماذا إذن؟ لأن عندهم العمل والإنجاز علامة الرضوان، هكذا علَّمهم لوثر Luther! إذا أنجزت وعملت وكسبت فهذا يعني أن الله رضيَ عنك، هذه البروتستانتية، هذه هي! فقالوا ها نحن أجزنا وفعلنا، هذان يُمثِّلان أعلى شيئ، وأنت ضربت الشيئ هذا، أي أنك ضربت المُقدَّس عندهم، هذا شيئ مُقدَّس، لا يتعلَّق الأمر بالحكاية الاقتصادية فقط، فهذا هو إذن! يا ليت نُبرِز البُعد هذا، فالضربة لم تكن اقتصادية فقط، بالعكس! قبل أن تكون اقتصادية كانت ضربة دينية رمزية، فإذن هم ما استطاعوا أن يُشغِّلوا الإنسان وأن يُشغِّلوا قدرات الإنسان إلا عبر الأصول أيضاً، عبر دينهم! أعادوا تفعيله من جديد.
أمريكا اللاتينية كما تعرفون كانت تُعاني من الاضطهاد ومن الطاغوتية قد العالم العربي مائة مرة بصراحة، وضعها كان سيئاً جداً جداً، كان يتم قتل الإنسان بلا حساب في الشوارع، فضلاً عن بيع الناس وبيع الأطفال، شيئ عجيب ومُقرِف جداً، ما تحسَّنت حالتها إلا بحركات لاهوت التحرر، أليس كذلك؟ اسمه لاهوت التحرر! أُناس لاهوتيون من رجال الدين أعادوا تفسير الدين من جديد، أليس كذلك؟ وبالمُناسَبة في فرنسا الحزب الشيوعي الخاص بموريس توريز Maurice Thorez في تلك الأيام مكَّن لأول مرة – واهتز الشيوعيون – لأمثال هؤلاء، هؤلاء كاثوليك، وفرنسا غربية كاثوليكية، مكَّن لبعض رجال الكثلكة الذين عندهم أفكار تحررية في الدين المسيحي، قال نعم سنلتقي معهم عند النُقطة هذه، بعد ذلك الحزب استوعب الفكرة وقال هذا جميل، لِمَ لا؟ يخدم الامة، يخدم تحرير الإنسان الفرنسي من ظلم الرأسمالية، وهكذا!
فيا أخي – سُبحان الله – هذا حلال لهم، وهو جيد! وتجد حتى مِن العلمانيين العرب مَن يتحدَّث عن لاهوت التحرر، ويبدأ يتبجَّح بأسماء قسس في أمريكا اللاتينية، لا إله إلا الله! تبجَّح بلاهوت تحرر المُسلِمين يا أخي! بسيد قطب، بعودة، بابن تيمية، بالشيخ الصدر، بأي واحد! عندنا رموز كثيرة، مثل عليّ شريعتي رحمة الله عليه، عندنا رموز فارعة جداً جداً، مثل أحمد ياسين، اليوم فشلت عملية لاغتياله، نجاه الله وحفظه، عندنا هذا! لكن يُقال هذا حرام، كل هذا ينتمي إلى عصر الظلام، إسلامي تراثي ماضوي! لِمَ هذا التحقير؟ فقلت لك بصراحة هذا سر مأساة الخطاب التنويري – الذي يدّعي ذلك – العربي، أنه خطاب استعارة، لا خطاب تمثل حقيقي، ولا خطاب اعتماد داخلي، لأنه فاقد شرط الاعتماد، وهو الضرب بالجذور في الأرض، وأستعير للمرة الأخيرة تعبير الدكتور شريعتي – رحمة الله عليه – حين قال المُستلَب عن ذاته طبعاً لا يكون له ذات، ووجوده مرآوي، نسبة إلى المرآة ميرور Mirror! المرآة – يقول – تعكس كل شيئ لكن تفشل في أن تعكس نفسها، انظر إلى هذا المُفكِّر! هذا درس في باريس، وهو سوسيولوجي كبير وعالمي، رحمة الله عليه، كان فاهماً، لم يكن مثل هؤلاء الأغبياء، هل تعرف لماذا؟ لأن عنده جذور إسلامية، علماً بأن أباه كان شيخاً، وهو قال أنا استفدت من كل قراءات الإسلاميين التي أخذتها بشكل خُرافي، الأغاني للأصفهاني والمسعودي واليعقوبي، وكل الكلام الفارغ الذي كان عن الحيوانات – الجاحظ كتب في هذا – وعن بشر لهم ذيول وينمو لهم كذا وكذا، أشياء خُرافية! عندنا خُرافات في الأدب العربي وما إلى ذلك، هذا موجود! عند الجاحظ والمسعودي وغيرها، كل هذه خُرافات! قال أنا حين تعلَّمت في الغرب وحاولت أن أُعيد النظر في هذه القراءات وفق مناهج أكثر علميةً – سُبحان الله – استحالت كلها إلى فائدة، وقدر على أن يكون منها أفكار ومناهج من جديد، المنهج أصبح سليماً! فشريعتي قال هذا هو، وجود مرآوي! هناك المرأة، وإخواننا هؤلاء وجودهم كله وجود مرآوي، يعكس كل شيئ، يتُرجِم كل شيئ، ويقول كل شيئ بلسان الآخرين، ماذا يقول فلان وماذا يقول علان، دائماً باستمرار! لكن ماذا تقول أنت؟ ماذا تقول أنت ليس على لسان الآخرين – ليس مقول القول الخاص بهم – وإنما ماذا تقول أنت أنت؟ يا عربي يا مُسلِم أو يا عربي على الأقل – يا ابن هذه البيئة، يا ابن هذا التاريخ، يا ابن هذه الجغرافيا – ماذا تقول؟ ستقول ليس عندي ما أقول، أنا فقط أُردِّد، إذن هذا يعني انك مرآة، تعكس الآخر وتفشل أن تعكس نفسك، وهذه المأساة! ولذلك أنا أقول لك طريق الإسلاميين – الحمد لله، هذا شيئ مُبشِّر – أقصر بقصير من أي طريق لأناس آخرين، أقصر من طريق الرسول! أمة تعترف بدينها وتعتز به، فقط ينقصها – وهذا الذي أُريد أن أختم به وأقوله دائماً في خُطبي – تطوير خطابها، الحمد لله أنا – لا أعرف ماذا أقول لك – أكثر من سعيد وفخور وأرفع رأسي بالشباب – الحمد لله – الذي أسمعه منه ويسمع مني، يُوجَد تقبل غير طبيعي، أنت رأيت اليوم مَن يُلقي مُداخَلة طويلة جداً والكل يجلس ويستمع بأدبة جم، أنا حين كنت في سويسرا حدثت لي كما رأيت بعض المشاكل مع إخوة سلفيين، شيئ يُقشعِر البدن، شيئ عجيب، والله العظيم! فأنا رثيت لحالهم، هذا مُستحيل! وقلت إذا كان هؤلاء يُشكِّلون أغلبية في الأمة فعلى الأمة العفاء الآن، لا يزال المشوار طويلاً جداً جداً، وقلت أمام حتى مشايخ أنا أعتب أول ما أعتب على العلماء والمشايخ الذين يصرون إلى اليوم أن يُردِّدوا المُردَّد وأن يُكرِّروا المُكرَّر وأن يقولوا المقول وأن يعيدوا المُعاد، لا يُوجَد جديد يا أخي، ثم يُخرِجون لنا أمثال هذه الأشكال، سُبحان الله! هؤلاء الناس أول شيئ أخذوه علىّ هو الآتي، قالوا لي كيف تصف فلان الأجنبي بهذا الوصف وتقول عنه المُفكِّر الكبير؟ يا أخي لا يجوز هذا، ممنوع! فقلت ما هذا؟ هل من هنا سنبدأ النقاش؟ أول العنوان الكفر! قالوا نعم، كيف تقول المُفكِّر العظيم والمُؤرِّخ الكبير؟ ما هذا؟ هل هذا ما أخذتموه علىّ؟ قالوا نعم، وكيف يقول كذا وكذا؟ وكيف يقول فلان كذا وكذا؟ أشياء سخيفة! وأخذوا على الشيخ الذي كان معي أشياء، كيف يقول الديمقراطية؟ قال له أحدهم لا، كفر الديمقراطية عندي، ما هذه الديمقراطية التي تتحدَّث عنها؟ احذر منها وانتبه، فكانت هناك مُشكِلة – سُبحان الله – مع أربعة أو خمسة من هؤلاء الشباب، سُبحان الله! لكن الأمر اختلف بالنقاش وبتطويل البال، أطلت بالي عليهم كثيراً، أكثر مما طوَّلت بالي عليك، أكثر بكثير! أنا أمن عليكم وعلى إخواني لكن هؤلاء جدد طبعاً ويُمكِن أن يضربوني، طبعاً يُمكِن أن يخرجوا فتوى بتكفيرك لكي يغتالوك، مُخيفون! لكن الأمر كان من باب الدعوة طبعاً وسعة الصدر، وهم مساكين يحتاجون إلى إرشاد، فبحمد الله بالنقاش وتوضيح الأمور وما إلى ذلك جرَّدنا القائد الخاص بهم في اليوم الثاني من كل أتباعه، صاروا جميعاً معنا، بعضهم بكى من خشية الله ومن تفتح الفكر وما إلى ذلك، فاختلفوا بالكامل عبر جلستين فقط، فلا تقل الناس أغبياء وتافهون، الناس تُريد من يُنوِّرها ومَن يفتح عقولها، وطبعاً تُلاحِظ أحياناً – أنا أُلاحِظ هذا الشيئ، عندي قدرة على تحليل بعض المواقف إن شاء الله، أحسب ذلك – أن حتى المشايخ يكون استياؤهم المُبطَّن أو الباطني أكثر من الناس العاديين، لأنك تفضحهم بالخطاب الخاص بك، وهم لا يُحِبون الشيئ هذا، يُحِبون أن تحكي في نفس النغمة وفي نفس المُستوى بل وفي مُستوى أقل منهم أيضاً، لكن الأمر يختلف حين تأتي وتطرح طروحات جديدة بأسلوب جديدة وبطريقة جديدة ثم تأخذ الشباب بالذات، وقالوا أول مرة – هذا في زيورخ – يأتي مثل هذا العدد إلى مُحاضَرة، رجل مسؤول قال لي من الثامن والتسعين يأتي عندنا علماء كبار – وذكر لي أسماء كبيرة جداً جداً، وهم مشهورون في العالم – لكن لم يأت في مرة إلى مُحاضَرة مثل هذا العدد، مُستحيل! رُغم أنه لم يُقدَّم لي، لأن الخُطبة أثارت جدلاً، الشباب أُعجِبوا بها وهؤلاء السلفيون الأربعة تسبَّبوا في مشاكل وكأنها عن الكفر، فلم يُقدَّم ولم يُعلَن عن مُحاضَرة الجُمعة، سكتوا! صارت فتنة كما قال، فتنة يا أخي! ومع ذلك جاء الكثير من الناس، في يوم السبت كان هناك ثلاثة أضعاف مَن جاءوا في الجُمعة، فقال لي من الثامن والتسعين لم يحضر لأي داعية او عالم مثل هذا العدد من الناس، إذن الشباب عندهم قابلية وعندهم أساس داخلي، يُحِبون أن يفهموا شيئاً جديداً، يُحِبون أن يفتحوا عقولهم قليلاً يا أخي، لكن ليس عندهم القدرة على أن يفعلوا ذلك بأنفسهم، أليس كذلك؟ كما أنت تفضَّلت، لا نطلب من شاب عادي مسكين – عامل أو يدرس الطب أو الهندسة وما إلى ذلك – أن يقرأ شرقاً وغرباً وان يقرأ ليل نهار لكي يُعطينا في النهاية أفكاراً، هذا صعب، تكليف بالمُحال، فلا نعتب على الشباب ولا نعتب على الجماهير، نعتب على أنفسنا – على أنفسنا أولاً – حقيقةً، فنحن نحتاج إلى العمل.
قبل الدولة – هذا لكي أطمئنك، وأنا ليس عندي اهتمام كبير بإقامة دولة الآن – نحتاج إلى الدعوة، يجب أن نستفرغ كل جهدنا في الدعوة، في استعادة الناس إلى دينها، في رد الناس إلى دينها، وفي رد الإسلام إلى المُسلِمين أيضاً، لكي أكون أيضاً واضحاً! لأن إذا كنا نزعم أن الإسلام موجود لكن الناس بعدوا عنه فهذا غير صحيح، نحن أيضاً – كما تفضَّلت – نحتاج إلى إعادة اكتشاف الإسلام، وكما نقول نحتاج إلى إعادة تشميته على رجليه، أحياناً يحجل أو يظلع ظلعاً وأحياناً يمشي على رأسه أيضاً، أي الإسلام، معكوس تماماً! لكن لابد أن يقف لكي يمشي على رجليه بشكل سليم، وهذا يحتاج إلى جراءة، ويحتاج إلى جسارة فكرية نادرة، لكنها موجودة في الشباب المُسلِم بالذات، والحمد لله الشباب مُبشِّر، الشباب – سُبحان الله – لين، النبي قال ماذا؟ نصرني الشباب وخذلني الشيوخ، إياك أن تُحاوِل الذهاب مع الجامدين، الشيخ الكبير صعب أن يُدرِك هذا، سيقول هل اليوم سأتعلَّم؟ هل أنت تُريد أن تجعلني تَلميذاً لك؟ هل تُريد أن تُعيد صياغة وهندسة أفكاري؟ لا أُريد هذا، لكن الشاب ليس كذلك، مرن جداً! يقول لك أنا سأتعلَّم، أنا طالب علم، أليس كذلك؟ والمُسلِم الصحيح يبقى دائماً طالباً، حتى لو عمره ثمانون سنة هو طالب علم.
فنسأل الله أن يُوفِّقنا جميعاً إلى ما فيه خيرنا وخير المُسلِمين، نعتذر من بقية الإخوة، لم نُعط للأسف ربما أي مجال لأي أخ للمُداخَلة أو للسؤال، لكن اعذرونا، هذه طريقتنا للأسف، سؤال طويل وجواب أطول، لكن – إن شاء الله – تكون حصلت الفائدة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
06/09/2003
أضف تعليق