رجل لا يزال طفلا، لم ينجح في تجاوز دهشة الطفولة و سآليتها، إزاء كل ما في العالم، من مظاهر الجمال و الجلال، و آيات الإبداع و الإتقان. و هذا الذي جعله أسيرا ـ كان و لا يزال ـ للكتاب، يصحبه ليله و نهاره، ينادمه، و يستشيره، و يجادله، و يحسن الإصغاء إليه، واصلا نفسه عبره بمن مضى من أهل الفكر، و بمن حضر، الذين يرى فيهم أكبر الفضوليين، و أخطر المنقبين، عما يعرف و عما لا يعرف. لا ينحاز كثيرا لعلم على علم، أو لفن على فن، بل يرى في كل منها استجابة لجانب من جوانب العقل، و سدا لحاجة من حاجاته التي لا تكاد تنتهي و لا تنقضي. و الكتاب في نظره أكبر برلمان لذوي الفكر، عرفه العالم و شهده التاريخ.
الحقيقة عشقه، و الوفاء لها عبادة لله و قربى إليه، و هو يرى أن نشدان هاته الحقيقة، عملية ممتدة مستمرة، و يرى في البحث عنها روعة لا تقل عن روعة مكافحتها (النظر اليها كفاحا) و تمليها، هذا إن جاز أصلا أن تكافح مرة و إلى الأبد. و إذ كان كذلك فلا جرم أن يصطدم كثيرا بمن يريدونه وفيا لأطر جاهزة، و برامج ناجزة، يتغيا بعضها المصلحة لا المعرفة، و الهيمنة لا الإكتشاف.
يفكر الى حد بعيد بصوت مرتفع، و هو إذ يفعل إنما يثير تساؤلات أكثر مما يقدم أجوبة، يحرك بها الماء الراكد، و يزرع علامات الإستفهام، هنا و هناك، ليعالجها رفقاء درب المعرفة، كل على طريقته، و من زاويته.
رجل تخومي، يعيش بين ثقافتين كبريين، ينهل منهما، و يسعد بهما، على أنه مدرك لتحيزاته، و تحيزاتهما. يرى جذوره أعمق من أن يتنكر لها، فهو يسعى جاهدا إلى أن يعيش بالثقافتين كلتيهما، فالأولى جذوره التي بدونها يذوي و يفنى، و الثانية فضاؤه و بعض غذائه، التي يستمر بها شاهدا على عصره. و لكنه إذ يفعل هذا، فإنه لا يفعله على طريقة التوفيق الظاهر بين الضفتين ، و لا الإستعارة الساذجة من الماضي للحاضر، أو من الحاضر للماضي، بل على طريقة الهضم والتمثل، غير مبال بما قد يرميه به من أسلموا قيادهم لإحدى الثقافتين، من تهمة الرجعية و التقليدية، أو تهمة التغرب و الإنسلاخية.
يؤمن بعمق بأن دينه و تراثه لم يستنفدا أغراضهما، و أنهما لو أحسنت قراءتهما مستعدان و بكثير من الجدارة على الإسهام المقدور في إثراء العصر، بل و في إنقاذ الإنسان، و تصويب مساره.